تنتج التكنولوجيا في معظم الأحيان مفاجآت لا يتوقعها أحد.
رغم أنه غالبًا ما يُتوقع حدوث أكبر التطورات قبل عقود من الزمن من انتاجها، عن طريق العقول المستنيرة التي يعتبرها الكثيرين في وقتها أنها خيال علمي. فمثلا عام 1945م وصف "فانيفار بوش" ما أسماه "Memex"، وهو جهاز واحد يخزن جميع الكتب والسجلات والاتصالات ويربطها معًا، وهو يشبه جهاز "التاب" أو المحمول الذي بين أيدينا الآن، لكنه في ذلك الوقت كان خيال علمي. هذا مثال يبين أنه غالبًا ما يتم فهم الخطوط العريضة التقريبية للحلول المستقبلية، أو إنه يتم الاتفاق عليها مسبقًا قبل القدرة التقنية على إنتاجها بوقت طويل. ومع ذلك، غالبًا ما يكون من المستحيل التنبؤ بكيفية وضعها في مكانها الصحيح، وما هي الميزات الأكثر أهمية، أو أقل، أو نوع نماذج الحوكمة، أو الديناميكيات التنافسية التي ستقودهم، أو التجارب الجديدة التي سيتم إنتاجها. وهذا ما حدث في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي مع تقنية مستقبلية للإنترنت تخيلها العديد من العاملين في مجتمع التكنولوجيا أطلق عليها تقنية "ميتافيرس" " Metaverse". هذه التقنية التي تنبأ الكثيرين أنها لن تحدث ثورة فقط في طبقة البنية التحتية للعالم الرقمي، ولكن أيضًا في الكثير من الطبقة المادية، بالإضافة إلى جميع الخدمات والمنصات الموجودة فوقها، وكيفية عملها، وما يبيعونه عليها.
أنه غالبًا ما يتم فهم الخطوط العريضة التقريبية للحلول والابتكارات المستقبلية، أو إنه يتم الاتفاق عليها مسبقًا قبل القدرة التقنية على إنتاجها بوقت طويل. #غادة_عامر
وعلى الرغم من أن الرؤية الكاملة لتقنية "الميتافيرس" كانت في ذلك الوقت صعبة التحديد، وحتى اعتبرها الكثيرين انها خيالية لأبعد حد، لكن بعد عقود، بدأت التقنية تبدو حقيقية للغاية. حتى إن هذه التقنية أصبحت أحدث هدف للعديد من عمالقة التكنولوجيا في العالم. مثلا في فبراير 2019م أعلنت شركة الألعاب " Epic Games"صانع Unreal Engine وFortnite أن هذه التقنية هي هدفها الرئيسي في الأعوام التالية. أيضا كانت هذه التقنية الدافع وراء شراء شركة "فيسبوك" للتقنيات التالية مثل نظارات الواقع المعزز، وواجهات التواصل بين الدماغ والآلة، وأن تقوم بشراء شركات مثل Oculus VR وHorizon Virtual World، بل إنها أنفقت عشرات المليارات لبناء الألعاب السحابية المناسبة لتقنية "الميتافيرس". ومصطلح "ميتافيرس" " Metaverse" هذا هو مصطلح تم تركيبه من كلمتين في اللغة الإنجليزية Meta وUniverse وهو ما يعني "ما وراء الكون". لقد تمت صياغة المصطلح في رواية الخيال العلمي Snow Crash التي كتبها "نيل ستيفنسون" عام 1992م حيث يتفاعل البشر اجتماعيًا، ويتاجر ويهزم أعداء العالم الحقيقي من خلال صورته الرمزية "أفاتار" (شخص افتراضي) في فضاء افتراضي ثلاثي الأبعاد يستخدم استعارة عن العالم الحقيقي. وقبل ذلك بمدة ظهرت مفاهيم مشابهة لتقنية "ميتافيرس" تحت أسماء متنوعة مثل اسم "الفضاء الإلكتروني" في رواية "ويليام جيبسون" في عام 1984م التي كانت بعنوان "Neuromancer"، وباسم cyberpunk عام 1981م في رواية True Names. الميتافيرس عبارة عن شبكة من البيئات الافتراضية التي تعمل دائمًا حيث يمكن للعديد من الأشخاص التفاعل مع بعضهم البعض ومع الكائنات الرقمية أثناء تشغيل التمثيلات الافتراضية - أو الصور الرمزية – لأنفسهم.
لقد كشف أمس الخميس 28 أكتوبر 2021م "مارك زوكربيرج" في مؤتمر Connect النقاب عن سلسلة من المنتجات والطموحات الجديدة حول تقنية "الميتافيرس"، وقال "لقد حان الوقت بالنسبة لنا لاعتماد علامة تجارية جديدة للشركة لتشمل كل ما نقوم به، لتعكس من نحن وما نأمل في بنائه. "ثم أعلن الاسم الجديد للشركة وهو "ميتا" " Meta". ويتضمن إعادة صياغة فيسبوك باسم "ميتا" بعض العناصر الثلاثة الأساسية التالية: أولا: تريد الشركة تعريف نفسها على أنها شركة "للميتافيرس”، وليست مجرد صانع لمنتجات وسائل التواصل الاجتماعي. ثانيا: التأكيد على امتلاكها لأدوات تلك التقنية الجديدة. كذلك إيجاد طريقة لتغير اسم الفيسبوك، لأنه الاسم الذي أصبح مرادفًا لعدم الثقة والشك (ناهيك عن نظريات المؤامرة والإبادة الجماعية). وفقًا لزوكربيرج، فإن تقنية "الميتافيرس" هي مجرد لمحة عما سيحدث في المستقبل. وقال: "بعد خمس سنوات من الآن، سيتمكن الناس من العيش حيث يريدون والعمل من أي مكان يريدون، كما إنه سيشعرون بأنهم حاضرون عندما يريدون ذلك". كما يتصور العديد من المهندسين أن “الميتافيرس" مستقبلًا تتلاقى فيه الحقائق المادية والمعززة والافتراضية في واقع واحد محسّن يحكمه نظام استهلاك اقتصادي واستهلاكي إعلامي مشترك. بالنسبة للأشخاص الذين يسكنون الميتافيرس سوف يعيشون فيها في جميع الأوقات، لأنه لا يوجد فيها "تسجيل الدخول" و "تسجيل الخروج"، والهدف من ذلك هو عدم فصل الميتافيرس عن الحياة الواقعية، ليصبح الميتافيرس هو الحياة الحقيقية، لدرجة أن مصطلح "الميتافيرس" نفسه يتلاشى في النهاية ويصبح الواقع المركب غير مرئي. ولقد أوجز الرأسمالي الاستثماري "ماثيو بول" مفهوم الميتافيرس في مقال مؤثر في يناير الماضي، حيث كتب "لن تحدث الميتافيرس ثورة في طبقة البنية التحتية للعالم الرقمي فحسب، ولكن أيضًا الكثير من الطبقة المادية، بالإضافة إلى جميع الخدمات والمنصات الموجودة فوقها، وكيفية عملها، وما يبيعونه". بعبارة أخرى، ستنشئ الميتافيرس مجالًا جديدًا بالكامل لملكية السلع الاستهلاكية. وقد قال الفيلسوف الفرنسي "جان بودريل "إنها الواقعية الفائقة، حيث يتم دمج الواقع والمحاكاة معًا بسلاسة بحيث لا يوجد تمييز واضح بين العوالم".
النسبة للأشخاص الذين يسكنون الميتافيرس سوف يعيشون فيها في جميع الأوقات، لأنه لا يوجد فيها "تسجيل الدخول" و "تسجيل الخروج"، والهدف من ذلك هو عدم فصل الميتافيرس عن الحياة الواقعية، ليصبح الميتافيرس هو الحياة الحقيقية، #غادة_عامر
ولو نظرت الى علامة زوكربيرج التجارية الجديدة سوف تجدها أنها إعادة تمهيد لإيديولوجية الأنبياء السيبرانيين في فترة ما بعد الستينيات الذين رأوا شبكة الويب العالمية على أنها عالم سفلي محتمل من ليبرالية وتحرر العصر الجديد، ورحلة روحية تقريبًا من شأنها أن تحررنا من الحدود والقوانين وتكسر القيود جسدا وعقلا. لكن نسخة زوكربيرج مخففة إلى الآن! وقد قالها زوكربيرج في عام 2019م: "أعتقد أن العالم يكون أفضل عندما يكون لعدد أكبر من الناس صوت لمشاركة خبراتهم، وعندما لا يتحكم الحراس التقليديون مثل الحكومات والشركات الإعلامية في الأفكار التي يمكن التعبير عنها". هذا هو نوع الإنترنت الذي ورثناه: مركز تسوق رقمي احتكاري وليس ملك لدولة معينة!
إن من يقرأ رواية ستيفنسون Snow Crash التي خرجت منها فكرة تقنية الميتافيرس سيعرف أن هذا أمر مأساوي وعالم كئيب، حيث إن الرواية تشير إلى ان هذه التقنية كانت سبب في تراجعت الحكومات إلى مكان غير ذي صلة وأصبحت الأرض مقسمة إلى دول ومدن ذات امتياز تحكمها شركات كبيرة. أدى فيها انتصار الرأسمالية اللاسلطوية إلى ارتفاع مفاجئ في عدم المساواة وتدهور الظروف المادية، وتحول فيها المجتمع الي طبقة عليا وطبقة سفلى اشبه بالخدم. إن هذه الرواية عبارة عن ديستوبيا حيث يلجأ الناس إلى الأكوان الافتراضية هربًا من المجتمعات التي تصورها لهم التقنية على إنها مجتمعات سيئة وفاشلة. من وجهة نظري ومن نواح كثيرة، إن الميتافيرس هو التعبير النهائي للتكنولوجيا الاجتماعية!!!
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
رائع 👏🏼👏🏼
مقال ممتاز
شكرا جورجينا يسعدني متابعتكم