قصةُ فتاةٍ تغلبَها القدرُ فافتقرتْ... ليسَ لقلةِ المالِ بلْ لاختفاءِ أبيهَا!
وهذه هي القصة
رأيتها تمشي مثقلة النفس، تمشي بثقل شديد وكأن الدنيا قد تثاقلت عليها، حمل ضخم لا يتحمله قلب هذه الفتاة الصغيرة، حمل يثقل النفس ويمزق الروح كما مزق ملابسها، رأيتها تزرف دمعا غزيرا، دموع فقر قاحلة، تثقل قلبي حملا كلما بكت، بكاءها يخدش قلبي فيمزقه، ليتني لم أرها، رأيتها حافية القدمين، قدميها تعرق عليهما الطين لمشيها حافية، كل خطوة تتقدمها وهي تبكي كالسيف دس في قلبي، حياة باهتة تعيشها هذه الفتاة، حياة ركيكة، حياة لا تسمى حياة! كل ذنبها أن أبيها قد مات، مات وماتت معه حياتها، قد انقطع حبل وصلها، انقطع حبل روحها، أصبحت باهتة النفس، ممزقة الثوب، ركيكة الروح، حافية القدمين، قلبها يقطر دما، دم أحمر خفيف ذو روح مداعبة جميلة، دمها كالماء يروي ظمأ العطشى، كل ما أذنبته أن أبيها قد مات لتعيش مجهدة، مجهدة النفس، معطشة الحب، فارغة الهوى، محرومة الحنان، مات أبيها وتركها ذو عشر، لأراها تمشي بخطوات مترددة، تمشي بروح مذبوحة بسكين بارد، رأيتها تبكي وتقطر دموعا ساذجة، رأيتها وقد أثقل الإملاق ممشاها، فلقد مات الذي كان يحرسها ويحميها، مات الذي كان يداعبها ويلاعبها، مات الذي كان يطعمها ويسقيها، مات الذي كان درع لها ووقاية، لقد مات أبوها، مات وماتت معه حياتها، تعيش بنفس فارغة، نفس مجهدة، وروح معطشة، لا ترتوي سوى بقطرات من دموع وقحة، مشت حتى تساقطت من شمالها دمية صغيرة ممزقة لعروس منسوج من قطن، حتى سوت على حجر أصم بجوار شجرة ذو غصون كثيفة، يا ليتني أمتلك قلبا أصم كهذا الحجر الأصم، لكي لا أحزن عليها كل هذا الحزن، جلست ثم تموضعت، وضعت رأسها بين كفيها ونظرت للأرض وهي تزرف دمعا، جلست وجلس معها قلبي لعله يداوي جرح قلبها، وللأسف لم أنجح في إضحاكها، كنت كالضيف الثقيل عليها، تثاقلت عليها عندما طبطبت عليها وربت على كتفها، ويا ليتني لم أفعل فلقد زدت حدة بكاءها حتى تعالت بالبكاء أصواتها، سألتها: أين أبيك؟ لتجيبني: مات سندي! يا لها من فتاة ركيكة، تقطر دموعا وكأنها تقطر دما، حياتها أصبحت باهتة، لا تدري من أين تعيش، لا تدري من سيكون عوضا عن سندها الذي مات دونها، لا تدري من أين يأتي قوت يومها، من أين تشعر بالراحة، من أين تستشعر السكنية والاطمئنان، حقا صدق من قال الأم للحنان والأب للاطمئنان، فمن له أم فهو في حنان، ومن له أب فهو في اطمئنان، مشيت خطوات قليلة بعيدا عنها وبدأت تدمع عيناي، فكرت في حالي لو كنت مكانها بلا أب، بلا مأوى، بلا سند، بلا عون ولا مدد، ثم عدت إليها وطبطبت عليها لعلني أعوضها عن أبيها فإذا بي وقد تساقطت دمعة من عيني على ملابسها فصنعت بقعة صغيرة على فستانها الأحمر الممزق، تحسست فتاتنا تلك البقعة حتى توقفت عن البكاء، أخذتها وذهبنا لعلني أعوض نقصها في أبيها، ذهبنا إلى حيث الراحة والأمان، ذهبنا وذهب عنها حزنها وتوقفت دموعها، منذ ذلك الحين وقد أدركت أهمية أبي بجواري، أهمية السند والعون والمدد، أهمية الرحمة المهداة في شخص لم ينجبنا هباءا منثورا، إنما أنجبنا ليتقاسم معنا الرحمة والحب والحنان، الأب الذي يحرم نفسه الطعام ليطعم ذويه، يحرم نفسه المال ليشتري ويبتاع من أجل ذويه، يحرم نفسه كل شيء من أجل سعادة أبناءه، يحرم ويحرم نفسه كثيرا ولا يبالي ولا يهتم، إنما الأهم أن يكون أبناءه في خير وسعادة، فالابن صورة الأب التي لم تختلق إلا لتكمل النقص في العطف الإلهي تجاة ذلك الأب، فإذا مات أبوك انقطع حبل الوصال بينك وبين الاطمئنان فحصن نفسك لكي تأمن عند رحيله، أما أنا فأشعر بالفراغ تجاه أبي ولعل الدعاء هو الصلة الوحيدة بيننا، وأما الفتاة فطابت نفسا وقرت عينا وهدأ بالها إذ تمثلت لها في صورة أب ثان لها، أو بمعنى أدق كمندوب أبيها، وهذه هي القصة.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات