الحياةُ محصورةٌ بين صرختين... الأولى أن تبكي وأنت تُولَد، والثانية صرخةٌ عليك وأنت تترك الحياة، فمَا أقصرَ الحياةَ! فاختَـرْ لنفسِك مَا يحلُو بِه الأثرُ.


في لحظةٍ فارقةٍ في حياةِ أبٍ وأمٍ، تداوتْ صرخاتُ طفلٍ، تتعَالى صرخاتُه كمَا تتعَالى أصواتُ الضباعِ في صحراءٍ خاليةٍ، فرحةٌ لا تقدرُ بثمنٍ كانت من نَصيبِهِمَا، الأمُ تحتَضِنُ مولودَها فَرِحَةً، والأبُ يَسْجُدُ للهِ شَاكِرًا، ضمَّ الطِفْلُ أنَامِلَهُ النَاعِمَةَ مُتَشَبِثَاً بالحَيَاةِ.


مَرَّتْ شُهورٌ، الطِفلُ مَا زَالَ يَصْرُخُ، لكِنَهَا ليسَتْ صَرخَةً كالصَرخَةِ الأولى، إنَهَا صَرْخَةُ الجُوعِ، الأمُ تُنَاوِلُه صَدرَها حَناناً، والأبُ يُطَبِبُه طِيبَــةً، هَدِأَ الطِفلُ، واستَقَرتْ رَوحُه الرِقرَاقةُ بَعْدَ أنْ حَمَلَهُ أبوه فَرِحَاً، فالآنَ يُحمَل بين يديَن.


مَرتْ شُهورٌ أُخرَى، والطِفلُ تَارَةً يَحبُو، وتَارَةً يَمشِي، فإِذَا بِهِ يَجْرِي ويَقَعُ فَيبْكِي، ويَجْرِي فَيُصِيبُ هَدَفَـــــــــاً، ولا يَقَعُ فيَشْكرُ ربَهُ، فيُزِيده، ومِنْ ثَمَّ يَكبرُ فيصيرُ مُراهِقَاً يَرتعُ ويَلعبُ، ومِنْ ثَمَّ شَاباً.


مَرَت سِنِينَ، صَارَ الأبُ طَرِيحَ الفِرَاشِ، لا يَقدرُ على حَمْلِ نَفسِه، فصَار الابنُ مُسَاعِدَه، يرُدُ له الجَمِيلَ، فسُبحَانَ مَنْ كانَ في الأمسِ يُحْمَلُ، واليومَ يَحْمِلُ.


ماتَ الأبُ، فوا أسَفاهُ. وصَارَ الابنُ شَاباً، فتزَوجَ، فأنْجَبَ، فإذا بِه يَحْمِلُ مَولُودَه، بِنفسِ الصَرخَاتِ، بِنفسِ التَجَارِبِ، حَتى صَارَ حَفِيدُ الرَاحِلِ بالأَمْسِ شَاباً، يردُ نفسَ الجَمِيلِ الذي ردَّه أبوه لجِدِه بالأمسِ، فمَاتَ الابنُ، ومَاتَ الجِدُ، وبَقِيَ الحَفِيدُ، ولَكِنَهُ لَمْ يَبقَ وحِيداً، فَقَد بَقِيَت مَعَهُ الذِكرَى العَطِرَة التي ورَّثَهَا السَلفُ للخَلفِ، أيضَاً بَقِي شَيءٌ آخَر... تِلكَ الصَرخَاتُ المُدويَة التي تَتَعَالى بِهَا حَنَاجِر الأحْفَادِ، ليأذنَ اللهُ لحياةٍ جَدِيدَةٍ أنْ تَكُونَ. فمَا الحياةُ إلا صَرْخَتَان، أولُهمَا صَرْخَتُنَا ونحنُ نُولَدُ.. فرحةً بالحياةِ، وصَرْخَةً علينَا ونحنُ نَمُوتُ.. فِرَاقاً للحياةِ.


صَارَ حَالُ الحَفِيدِ كحالِ جِدِه بالأمْسِ، لكِنَهُ قَعَدَ على الفِرَاشِ مُطمَئِنَــــــــاً بِأَنَّ ابنَه سيَحْمِلُه، فَقَد كانَ يُحمَلُ بينَ اثنينِ.. اسْتِبشَاراً، ويَمشِي على اثنينِ.. قُوَةً، ثُمَّ يَتَمَاشى على ثَلَاثٍ.. هُمَا رِجْليّهِ وعُكَّازِه.. عَجَزَاً، ثُمَّ يُحمَل مَرَةً أخرَى كَمَا كانَ بالأَمْسِ، لَكِنَهُ اليَومَ لَمْ يُحمَلْ بينَ اثنينِ فقط، بَلْ حُمِلَ على أربعٍ.. حُزنَـــــــاً.


إنَهَا الحَيَاةُ.. دوامةٌ يَتَتَابَعُ فِيهَا الخَلَفُ عَنْ السَلَفِ، فَكَمَا فَعَلتَ ستُفعَلُ، وكمَا دَاينتَ ستُدَانُ، لأنَهُ في يومٍ مَا يَشِيبُ له الوِلْدَانُ، سَتُقَامُ الأوزَانُ، وتُقبَضُ الأَثمَانُ، لأنَهَا وبِبَسَاطَةٍ لَنْ تَدُومَ إلَّا للرَحْمَنِ.


الحَياةُ قَصِيرةٌ لأنْ تَيـأَسَ، فَانطَـلِــقْ وكُنْ أنتَ السَبَـبَ فِي التَغْييرِ لِلأَفضَل تَـارِكَـاً أثَــراً فِي دُنيَاكَ لِـيَحلُـو بِهِ ذِكْراكَ.


--- --- --- --- --- --- ---

خـــالــــص تــحــيــاتـــــــي وتــقــديـــــــري🌹


حياةٌ بين صرختين... بُكاءُك وأنتَ تُولَد وبُكاءٌ على رحيلِك مِنْ الدُنيَا58969346922428030




ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات متولي حمزة

تدوينات ذات صلة