حالة من الضجيج الفكري المصاحب للاشتياق بألمِ مراحله.
***
مازلت أتجنب الالتفات إلى الجانب المؤدي لمخيمك في كلِّ مرةٍ أركب في سيارةٍ عمومية لكي تقلني إلى الجامعة، أشعر بغصة كبيرة، كأنّ هموم الدنيا المُثقِلَة لصدري يزدادُ حِملها ضعفين، بل أكثر!، كأنّ أرصفة طريقه المطلّة على جانبي تصدرُ صريرًا يُهيأ لي أنّه النفخ في البوق، أنّ النهاية أوشكت، ذاتَ الصوت أعطى الضوء الأخضر لتعصفَ بقلبي ضرباتٌ مدوِّية تسحبني رويدًا إلى المجهول رسميًّا، وحتمًا إلى اللا رجعة، ثمّ يلقي هيجان العاصفة بقلبي بين الزقاق الفاصل بين حيّكم والحي الذي يليه، يعني أنْ تدوس عليه عند اجتيازك كلا الحّيين للوصول إلى الشارع العام، الشارع الذي كانَ شاهدًا على لُقيا أعيننا سبعَ مراتٍ بواحدٍ وخمسين ثانية، المقصودةِ منهنَّ ستة، والرابعة بينهنّ صدفة!
قررتُ كسرَ الحاجز الذي بنيتُه بين عينيَّ وجانبك المُغشي لنظري، اليوم فقط، أعطيتُ ذاكرتي استراحة مقاتلٍ من حربٍ أهليةٍ طاحنة بينَ أفكاري، مستندةً على مُسلَّمة من مسلمات الحياة التي وضعها شخصٌ أهيف فارغ الوفاض، أنْ واجه مخاوفك تختفي!، أيّ اختفاءٍ هذا الذي يشمله خروج الروح بتروٍ؟، أتعلم؟ لا يهم، المهم أنّني سأقلص مساحة البعدِ بنظرةٍ تَخفى عنك، شبيهتها التي عاتبتني عليها عندما لم أخبركَ بها سابقًا، لتُضاف واحدة إلى رصيدي على الست الأخريات، أَما زال يعنيكَ أمرها؟ ارفقْ بقلبي لمرةٍ فقط، ولا تدع قدسية هذا الأمر يذهب سدًى، حتى ولو أنْ أمري لا يعنيك البتة، فقط لا تسمح لعقلك بركنِ هذا الجانب في زاويةٍ خارج أبوابه، لا تتركه لصقيعِ أفكارك فيتجمدُ متوسلاً أعتابك أن يتجاوزها، فقط هذه المرة.
التاسعة وسبعٌ وعشرون دقيقة، ومليون نبضة بتوقيت النظرة السادسة، هذا ما تبوح به عقارب الاقتراب لمعدل تنفسي، بدأت أعبث بحقيبتي، سبعون نبضة ومائة ونصلُ..
هيأتُ نفسي وأخذتُ أنظر من خلف زجاج شباك السيارة، لم تقوَ يديَّ على مفارقة حزام الحقيبة لكي أفتح الشباك، فآثرت عدم الضغط عليهما وأبقيتهما مع ما تفعلا، وأطلقت عنانَ عينيَّ للتجولِ في طول واجهة مخيمكَ، أي دقيقة كاملة وثوانٍ لا تحسب في يومٍ غير اليوم..
دقيقةً وثوانٍ من الأزقة الفرعية، من واجهات المحلات، من العديد من الحيطان التي لم تسلم من خربشات الشباب الطائش إلا بضعٌ قليل منهم ربما، خربشات فحواها عبارات حبٍ تتخللها قلوبٌ في أوسطها حرفان والدارج أنّهما إنجليزيّان، وأُخرُ مكسورةٌ في نهاية عبارات تشعُّ بغضًا أو تبوحُ بغدرٍ لا تعلمُ إنْ كان نابعًا من قلبٍ مكسورٍ بالفعل، أم أنّه لمسايرة الركبِ فقط، مصابينَ في عقولهم قبلَ قلوبهم هذا أول ما جاء في بالي أنْ أسميهم، والمضحك أنّ آخرَ ما قرأتُ كان توثيقَ أحدهم لمروره على الحائط، وإن كنتَ من أهل المنطقة ستعرف جيدًا أنّه منها، وأنّ مروره دائم، وأنّه لا يضفي جديدًا على الحياة، فقط خربشات تأتي البلدية كل مائة عامٍ وستزيلها بدهانٍ أبيض، فقط "عزّ الدين مرّ من هنا"، وهكذا تدور دورة حياة الحيطان هنا.
توقفت السيارة عند الإشارة الحمراء، أي عند مدخل مخيمك، ولأول مرةٍ أكره الإشارة، أكره الطريق، أكره مدخل مخيمك، وأكره الشارع العمومي بأكمله، هل كانَ ضروري وجودهم؟ الشارع العام، الإشارة الحمراء، المخيم بأكمله، هل كانَ عدم وجودهم سيضفي عتمةً على الحياة؟ فليضف ما هو مُضفٍ، لم يكنْ سيغير شيئًا سوى مكوثي أتألم هكذا في هذه البقعة تحديدًا.
رأيتك.. بدأت يداي بالارتجاف، شعرتُ بكَ تحدق بي، أنّ عيناك تخترقُ داخلي، ولوهلةٍ أحسستُ أنَّ روحي بدَت عارية أمامك، رؤيتي أصبحت ضبابية، لم تكنْ خيالاً ولم تكنْ تحدق بي أيضًا، زجاج شباك السيارة المعتم كان يقف بصفي، رغم أنّي لم أحبِّذه يومًا، لكن اليوم ولأول مرة أشكر وجود شباكٍ معتمٍ في السيارة، أشكرُ رفضي لفتحِ الشباك منذ البداية، منذ أن أطلقت شجاعتي الواهية.
بدأتُ أشعرُ بموجات الصرير تتلقفُ بعضها بعضًا لتتمكنَ منّي، أضعُ يديَّ على أذنيّ أصمُّهما من حدةِ الموقف، أكادُ أصرخُ مطلقةً ألمَ البعد كله في آهٍ واحدة، أتذكرُ أنّني وسط أربعة من الأشخاص فأكتمها إلى حينِ انفرادي بذاتي، وأزيدُ الضغط على أذنيّ وأُنزلُ رأسي قليلاً وكأنّني أحتضنُ ذاتي المكلومةِ، هنا أفقد السيطرة عليَّ، وأبدأ بالأنين بخفوت، وكأنَّ احتضاني لذاتي أعطاني مؤشرًا بالبداية، بدأت تتهاطل على وجنتيّ الصفراوين أنّاتي المصحوبة بقطراتٍ ساخنة، يشتدُ الأنين فأتفاجئ بنسمةِ هواءٍ باردة تداعب كتفيَّ المتهدِّلين، أسعلُ اختناقي كله، وأرفع رأسي، ستة عشرَ عينًا محدقةً بي بخوفٍ مصحوبٍ بقلقٍ مواسٍ لحالي، السائق كانَ قدْ فتحَ النافذة من جواري، وجدتُ تفسيرًا لنسمة الهواء إذن، ومن استرساله الحديثَ، تبينَ لي أنّه كان قد تكلمَ كثيرًا قبل هذه اللحظة، توقفت السيارة على جانب الطريق، فالتفت لي عارضًا عليَّ أنْ أنزلَ من السيارة لكي أستعيد توازني، وأن يقدم لي بعض الماء، ولم يعترض أحدٌ من الرُكابِ، أشرتُ له برأسي أنْ "لا" وتمتمتُ بشكرٍ أشكُّ في انطلاق سراحه من بين شفتيّ، هل أصبحتُ مثيرةً للشفقةِ بسببك؟
لا بأس، استعدتُ حالة الجمود والتماسك، وقررتُ إمضاء اليوم في أيِّ شيءٍ لا يذكرني بك، حتى مروري الآن بجانب مطعم الفلافل الذي يتوسط السوق، لن يذكرني بأنَّك تعتمد فطورك من عنده، حتى شرطي المرور ذو اللحية الشقراء لن أتذكر أنّه صديقك، ولا الفراولة على باب محلّ الفواكه ستذكرني بأنّها فاكهتك المفضلة، ولا حتى طريقي الطويل بجانب البحر سيذكرني بأنّ البحر مكان انزوائك بذاتك، لن أتذكر أبدًا وسأمضي بلا تفكيرٍ محدد إلى أنْ أصل الجامعة، وأستقلّ المصعد الكهربائي فلا أتذكر حادث انقطاع الكهرباء وأنتَ فيه، أصل إلى سطح المبنى، لا طالبات كثر، فقط اثنتان مشغولتان بهاتفهما، لا بأس، استنشقتُ أكبر كميةٍ من الهواء، وما إن أطلقتها، حتى صدح هاتف إحدى الفتاتين، سمراء طويلة كانت، لاحظتُ غمازتيها عندما قرأت اسم المتصل، لم تُجبْ، واستمر الهاتف بالرنين واستمرت هي بالتحديق فيه:
" القريب منك بعيد، والبعيد عنك قريب
كل ده وقلبي اللي حبّك، لسا بيسميك حبيب.."
استغربتُ أنّ أحدًا ما، ما زال يضعُ نجاة رنينًا لهاتفه!، وما ذكرتني به نجاة، جعلني أقف عاجزةً أمام فكرة أنه كيف للمرء أنْ يتركَ من يهيمُ به عشقًا ويركضُ خلف آخرَ من سراب؟! يدفعني موقفي الذي أنا فيه للأمام خطوة، يذكرني بذاتي، أترانا نسيرُ في حلقةٍ مفرغة؟ ويأتي أمرٌ آخر ملاحق لمشتِّتَاتي، أتراكَ ستأخذ نصيبًا من جرعات الألم التي حظيتُ بها؟ أستتذوق ما ذقتُه من الألم؟
أذاقك الله ضعفينِ منه ... أبتلعُ غصةَ الدعوة، وأكررُ في ذاتي، اللهم لا، اللهم لا تذقه ألمًا، حمقاء أنا أعلم ذلك، وهل للحماقة جسدًا غيرَ جسدي لتتجسدَ فيه؟ لا بأس بكثيرٍ من الحماقة إذن.
أطلقتُ زفيرًا آخر، وأطلقت الفتاة الأخرى العنانَ لهاتفها ليصدحَ محمد عبده من خلاله:
"كل شي حولي يذكرني بشي، حتى صوتي وضحكتي لك فيها شي
لو تغيب الدنيا عمرك ما تغيب، شوف حالي آه من تطري علي
الأماكن كلّها مشتاقة لك."
أمتفقتان؟
إذن، لا نسيانَ يلوحُ في الأجواء، لا بأسَ بكلِّ الذكريات الآن، علّها تحررني بعدها، أتعلم، لطالما قدست مخيمك وشعرت أنّني أنتمي إليه، أنّ روحي ستنتشلُ منه، أيلفظني الآن بسببك؟ أيعلن عصيانه على احتوائي؟
ألا يسيرُ حنين محمد عبده علينا جميعًا؟ أكانَ يجيب أنْ يقف عندي، ولا يكمل مسيره لكَ، أمْ أنّك أحكمتَ الإغلاق على ذاتكَ فيأسَ على الأعتاب فتجاوزك؟
أتعلم؟، لطالما قدست الأماكن لا الأشخاص، وكنتُ أُسِرُّ في ذاتي أنّ تقديسي للشخص سينتشل ذاتي منّي، وسيذهب كينونتي إلى حيثُ لا أدري، وسيوصلني إلى حالٍ لستُ أنا من أرسمه،
أتعلم؟، يا ليتني لم أقدّس، ويا ليتها لم تلح ببالي هكذا فكرة.
سأحملُ حقيبتي الآن، سأتركُ غناء محمد عبده لتلك الفتاة، وسأنسى أنّ نجاة صدحت في هاتف الأخرى، سأتركهما، وسأتركُ محاضرات اليوم، وسأسيرُ حتى تتعب قدماي، لن أسلك طريق البحر، ولن أمرّ من خلال السوق، ولنْ ألتفت لجانب مخيَّمك، سأتجنب كلَّ ذلك، لا بأسَ بخطواتٍ أكثر، المهم أنْ أتجاوز الصرير الصادر من الأماكن التي احتوتكَ يومًا، ألّا أستمرَ بصمِّ أذنيّ كلمّا ذكرني أحدها بك، لا بأسَ بفترةٍ أطولَ للنسيان، ولا بأسَ بخطواتٍ أكثر، ومرحبًا بألمٍ بعيدًا عن أعينٍ تنقلُ لكَ ما أشعر، لا تستغرب، لطالما آمنتُ بفكرةِ أنَّ الأماكن بكلِّ ما فيها تسمع وترى، ولنْ أضع نفسي نصبَ حكمكَ على نهايتي،
فقط لا بأس بالكثير من التجاوز والسكوت.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات