قصة تحاكي أمرًا من الواقع الفلسطيني، وهو زوجات الشهداء وحياتهنّ المكللة بالتعب بعد رحيل أزواجهنّ.


*

نظرتُ إلى تاريخٍ آخر محادثةٍ جمعتْنا سويًّا على واتساب، تأملته كثيرًا، ولأول مرة يشوبني شعورُ الشجاعة المقرون بالخوف، غريبٌ هذا الشعور، كما كان حال مشاعري التي اختبرها قلبك على قلبي على مدار ما عشناه، والتي أيضًا تلقيت أبجديّتها من عينيك عند اللقاء الأول، وتكوينها فيما بعد تلقيتُه عندَ عقدِ قلبينا بالميثاق الغليظ، لم ينتبْني شعور الشجاعة بتاتًا طوال تلك المدة، فقط الخوف وكلّ الخوف كان مسيطرًا عليّ، واليوم وبعد مرور سنتين على بداية تشكّل خوفي، بدأت الشجاعة تتسللُ إلى داخلي، خفقَ قلبي حتى بتُّ أسمعُ صوتَ نياطه تحاولُ التماسكَ خوفًا من التمزّق أمامَ شدةِ الضربات، ولم أتجاوز فكرة وقْفِ الدموع التي كانت ستؤذيكَ لو كنتَ أمامي، والحقيقة أنها لم تكن لتنزل لو كنتَ أمامي، ورغم مرور سنتين كاملتين أودتا بشغفي إلى الهاوية، إلا أنّني لم أحظَ بذرة شجاعة تنفيني بينَ ما يحمله كلّ ركنٍ ماديٍّ كنتَ تنثرُ أجزاءَ من صوتكَ وضحكاتكَ وابتهالاتك فيه، سنتان كاملتان كنت أعيشُ على الذكريات المتبقة من ذاكرتي ولا شجاعةَ تنفيني بينَ أضلع ما يساعدني على تكثيف هذه الذكريات، ليسَ لشيءٍ سوى أنّه أمرُ العقلِ الذي كان متيبِّسًا أمامَ فكرة العبث بما جمعنا سويًّا، والآن عندما صدع شعاعُ الحنين قلبي إلى أن كاد يمزقه، رحتُ أتجرعُ آخرَ ما تركته لي، المؤلمُ أنكَ تركتَ كلّك إلّا جسدك وآخرَ ملابسٍ كنتَ قد توشحتَ بها عند رحيلك، والذي يصعبُ على لساني قوله والذي يلفظه قلبي مع كلّ نبضة في ذات الوقت، أنّني أريدُك بكيانكَ بجسدكَ بملابسكَ الأخيرة التي ارتديتها، حتى ولو صُنِّفت على أنّني أنانية.


تخيل، عادةً ما يراودني الحنين، والحقيقة أنّه لا ينفكُّ عن مواكبة أحداث يومي، حتى أحلامي بات يرافقني فيها، بل ويشاطرني إياها ولأنه أنانيٌّ بعض الشيء؛ سرعان ما يسرق الشطر الأكبر منها ويسيطرُ على أحلامي معلنًا انتصاره.كنتُ قد فتحتُ الواتساب ووقفتُ عند التاريخ والجملة الظاهرة من خارج المحادثة، تنهدتُ محاولةً أخذَ أكبرِ حيِّزٍ من الهواء علَّه يخفف من حدة توتري، وأخذتُ أبررُ هذا التوتر على أنّه أمرٌ اعتياديٌّ بالنسبة لأولِ مرةٍ تراودني الشجاعة فيها منذ سنتين، فكنتُ كأنني أختبر الشعورَ لأول مرة، والحقيقةُ التي أخفيتها عمّا أوهمُ نفسي بهِ، أنّ قلبي لم يكُ ليتحمَل وقعَ العتابِ في آخر ما تحدثنا به، ولا وقْعَ آخرِ سطورٍ بُعِثَتْ لي، ولا قسوتي آنذاك، ولا مكابرتي لإنهاء أمرِ الخلافِ مع تقديمكَ الاعتذار على ما سببته أنا من خلاف، يا لَجحودي!، ويا لحنانك المبسوط أمام ما أُملي عليكَ مِن ثِقل!


12/7/20**:

= آلاء؟

=آلاء، منتي أون لاين ليش بترديش؟

=آلاء خلص بكفي دلع، حكيتلك آسف، أكم مرة بدك أعيدها؟

_ مليون مرة، عندك اعتراض؟

= أنا والاعتراض على شي انتي بدك ياه؟ أعوذ بالله.

_ شو قصدك؟

= شو بدو يكون قصدي؟

_ خالد تحكيش معي.

= خلص آسف.

= طب ردي هيني تأسفت مرة تانية

= طب هتضلي مطنشة هيك؟

= خلص هراضيكي لمّا أرجع ع البيت.

=مش هطوّل، بحبك.


لم تستطع قدماي إسنادي فتهاويت مباشرةً على الأريكة الأقربِ لمكان وقوفي، كانت المحادثة مقتصرة على سلسلة اعتذارات، وأشكُّ أنّ خالدًا كان على علمٍ بسبب الاعتذارات التي يقدّمها على طبقٍ من ذهب، حتى بعدَ أن عاد يومها إلى البيت انهال بالاعتذار وانهرت أنا بالبكاء على صدره وسمعته يتمتم:

= وبعدين مع هرمونات الحمل يا رب..

أيُّ استغلالٍ وجحودٍ أمكثته فيه معي؟!


عبثتْ بذاكرتي فترةُ الانطفاء المتشبثةً بتلابيب أعصابي، أكاد أجزم أنّه لا إنسان غيري متاحٌ على هذا الكوكب البائس؛ ليلجأ إليه الانطفاء بدلاً من تشبثه بي بكلِّ هذه القوة، أو أنَّني أرضٌ خصبة يُستحبُّ احتلالها من كلِّ الجوانب، ولم تكتفِ الحياة من مرارة الغربة عن الذات لسنتين كاملتين؛ لتبعثَ بالانطفاء ليشنّ غاراته عليّ في آخرهما، فيرديني متقوقعةً في زاوية غرفتي التي باتت تعرف توقيتي التي أنزوي إليها فيه، فتستقبلني وكأنها اعتادت على وجودي كمؤنسةٍ لوحشتها، أقسمُ أنّها ستفتقدني إنْ غبتُ عنها يومًا، بل وربما ستشعرُ بالخذْلِ ظنًّا منها أنني لجأت لغيرها، وأشكُّ أنّها ستستقبلني بعدها، عنيدةٌ هيَ كما صاحبِ الصورِ التي تغلِّفُ جدرانها!، والمضحك في حالتي المزرية أنّ البعضَ بدأ يطلقُ على حالتي مسمى "نقاهة"،

أنا بكلٍّ من استقالتي من الحياة ولجوئي إلى ما أنا فيه يقعُ في نظر بعضهم "فترة نقاهة"!


سمعت إحدى صديقات أمي التي ما انفكت عن زيارتنا بعد رحيلك وهي تقول لأمي:

= خليها تطلع من الدار يا أم العبد، خلص بكفّيها، خليها تشوف حياة إلها ولكومة اللحم (تقصد ابني إبراهيم) اللي حاملاها بين ايديها.

_ والله ما هجبرها ع حاجة، اللي مرّت فيه بنتي مش قليل والله يصبرها، هسيبها براحتها لسّاتها صغيرة ع الشقى، وأنا معها بكل قرار بتوخده.

= منا هاد اللي بقوله يا أم العبد، البنت صغيرة ملحقتش تتعلق فيه، يعني لازمها تشوف مستقبل لابنها، أنتي اليوم بتصرفي عليها وع ابنها، بكرة بس يكبر شوي بتبطلي تقدري توفريلو مستلزماته، وبصير يتعنطز (مش عاجبه العجب) وبِطلع عن طوعك وطوعها.

_ الله ميسّرها معنا يا أم جابر، هي بس بدها فترة وتصحصح إن شاء الله، أصلاً الحاجة الوحيدة الي مصبراها هي وجود ابنها الله يحميلها ياه، يعني تقلقيش هية فاهمة مصلحة حالها ومصلحته وأنا متأكدة إنها بتفكر فيه بكل خطوة بتعملها.

= أنا بس بدي مصلحتها، وبعدين مازالها صغيرة، ليش ما واحد من أسلافها (أخوة زوجها) يتجوزها ويستر عليها، ومنو بدير باله ع ابن أخوه، بدل ما تتجوز بعد كم سنة من واحد يرمي ابنها، وتصير هي في واد (وادي) وهو في واد.


إلى هنا ولم أستطع أن أكمل حديثهما، ولا أن أسمع ردّ والدتي الذي اكتشفت بعد مدة أنه كان كفيل بإنهاء هذه الصداقة، صدمتي ألجمت لساني مع أن عقلي كان يشتم داخليًّا تفكيرها وحماقاتها وصداقتها التي تربطها بأمي،

وانطلقت يومها إلى غرفتي إلى زاويتي وحملت ابني النائم في سريره ووضعته في حضني، حتى أنه بدأ يتململ في نومته، ولكنني لم أعبأ وهدهدته واستمريتُ في احتضانه، واستمريت في ترديد:

"شو اللي خلاني أنزل وأسمع؟ ليش نزلت ليش؟ يا ريتني ما نزلت، يا ريتني ما سمعت"،

كانت حالتي في حيرةٍ من أمرها هل تنصدم لأن التشبيه الذي نال من ابني كان عبارة عن "كومة لحم"؟، أم من تشكيك الجارة في حبّي لخالد؟، أم تصنيفي على أنني سلعة يجب أن يمتلكها أحد خشةَ تلفها؟، هل هذا ما يفكِّرُ به المجتمع من حولي، هل انتهت كل الأحاديث والمشاغل لأصبح أنا وابني حديثهم وشغلهم الذي يكسبون قوتَ إثمهم من خلفه؟


"ملحقتش تتعود عليه"، رفض عقلي تصديق العبارة إلى أن صرخت ببكاء، ففزعَ إبراهيم من نومه، هدهدته مرةً أخرى وأخذتُ أُرضعه، إلى أن هدأ، ثمّ صحيحٌ أنّني تزوجت خالدًا بعد مرور شهرٍ على إتمامي عاميَ التاسع عشر، وفقدتُ خالدًا بعد شهرين من انتصافِ عاميَ العشرين، لكنّني أحببته، وما زلتُ أحبّه، ولن أتردد عن حبّه فيما بعد، وسألقّنُ هذا الحبَّ لابني الذي لم يرَ والده سوى في الصور، ولن أدّعَ أحدٌ يشكك في حبّي.


تأوه قلبي من كمّ الذكريات التي فتحتها على قلبي، آهٍ كم أنّ بعدك مؤلم، وآهٍ كم أعشقُكَ كلَّ يومٍ أكثر، كيف لا أعشقكَ وأنا أرى صورةً مصغَّرةً عنك تلهو أمامي طوال يومي، يبلغ إبراهيم عامًا ونصف العامِ، وما زلتُ أرفضُ مناداته بلقبي المحبب "هيما"، كما كانَ مرادَك تمامًا، لم يستسغ قلبي عصيان ما تحب حتى بعد مواراة الثرى لجسدك الذي رسمَ الرصاصُ نهايةَ أنفاسه، من البدايةِ كانَت النهاية مرسومة على هذا النهج، وصدقني كنتُ أمهّدُ لهذه النهاية من بداية معرفتي بك، ورسمتها ورسمتُ ما سيتلوها من حالتي ولكن ليس على هذا النحو، أعلم أنني ربما خذلتك فيما أنا عليه الآن، ولا تلقي بالذنب عليّ، إنّما هو ذنب الفؤاد الذي انشطر برحيلك.


ولكنني ما زلتُ عندَ وعدي في تلقينِ إبراهيمَ مراسم الحبّ التي أوصيتني بها:

اللهَ أولاً وهذه البلاد بكل حفنة ترابٍ تغطيها، والنهج الذي عبّدْتَه له قبل رحيلكَ ليكمله هو، وكما كنتَ تخبرني دائمًا: إنّما هي مسألة وقت.


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

والله رائعة جدا

إقرأ المزيد من تدوينات ياسمين أبو شماله

تدوينات ذات صلة