قدرٌ جمع من فلسطينية وجزائري في لقاءٍ بسيط في الجزائر، إلى أنْ تُوِّج لقائهم بتعارفٍ بسيط إلى استقرارٍ في حياة واحدة شملتهم سويًا.



***

أخذتُ درجات سلم الطائرة درجتين درجتين، مع أنّه ليس بذلك الطول الذي تقول إنّه سيأخذُ وقتي الثمين، ولكنني في لحظتها شعرتُ بأنه سيأخذُ جزءًا من لهفتي وشوقي في أنْ أصلَ بالطريقةِ التي أردتُها، ف

أخذتُه كما أخذتُه، إلى أنْ تلقّفتْني أرضُ "هواري بومدين" فشعرتُ بانتشاءٍ كاملٍ، وأحسستُ بأنّ بعضًا من سحرِ الجزائر أحاطَ بي من رأسي إلى أخمصِ قدمي، ذاكَ السحرُ الذي يكمن في أُلفة نقاء الهواء الذي يحملُ في طيّاته استقبالاً مهيبًا لكلِّ فلسطينيّ، أو حتى لكلِّ شيءٍ يحملُ شيئًا من رائحة فلسطين.


أغمضتُ عينيّ، ومددتُ يديَّ على طولهما إلى جانبيَّ وأخذتُ أبتسمُ ببلاهة، لم يعنيني شيءٌ وقتها سوى استنشاقِ أكبرِ كميةِ هواء، أخبرتني صديقتي جملةً اعتبرتُها خرافةً وآمنتُ بها لتشبثي بأيِّ قشةٍ تحققُ مرادي، كانت الجملة أو الخرافة بمسماي تقول: "إنْ كنتَ تريد أنْ تقطنَ مكانًا بشكلٍ أبديّ، فقط املأ رئتيكَ بهوائه عندَ الخطوة الأولى فيه، وعند الابتعاد عنه سترى أنّ الهواء الذي تشبَّثت به رئتاك قد بدأ بالحنين إلى موطنه، فترجعُ ولهانًا إليه."، آمنتُ بأنّها ستجدي نفعًا معي.

استيقظتُ من سباتِ استنشاقي على ركلةٍ بسيطةٍ من طفلٍ صغير، وسرعانَ ما جاءت أمّه معتذرةً لي: "سامحيني أُختي"، يا لَلطافةِ نساء الجزائر، ابتسمتُ لها ونظرتُ حولي وجدتُ الناس ينظرون لي مبتسمين باستغراب، فعلمتُ أنّ جلسة استنشاقي كانت خطوةً جريئة ويبدو أنّني كنتُ منفعلةً في وضعي، ابتسمت خجلاً وأخذتُ حقيبة يدي وانطلقتُ لأكملَ إجراءات الوصول.


كانت هذه المرة الثانية التي أزور فيها الجزائر، لكن هذه المرة شعرتُ بأنّني من هذه البلاد، شعرتُ أنّني أفضِّل الموتَ على أنْ أتركها، وشعرتُ بتزلزلِ كياني ما إنْ لاقتْ عينايَ عينيه، كانَ في استقبالي يحملُ باقةَ وردٍ وينظرُ لي بابتسامةٍ عريضة، أوّاهُ من ابتسامته المنتهية بغمّازتين محفورتين في خديه الأسمرين العربيّين، تركتُ حقائبي وأطلقتُ العنان لقدمييّ ليستقرا أمامه لا يفصلنا سوى باقة الورد، حضنته وبكيتُ كثيرًا هامسةً في أذنه: "سنة ونصف السنة، سنة ونصف السنة"، لاعنةً كل الظروف التي تسببت بانتظارنا كلّ هذه المدة لنجتمع، خرجتُ من بينَ يديه وكحل عينيّ كان قد كوّن مجرىً له على خدييّ، قبّلني على جبيني وقال بصوتٍ هامسٍ:

"مرحبًا بكِ يا جميلة"،

وابتسمتُ له متشبثةً بذراعه وتركتُ حِملَ حقائبي على يده الأخرى، إلى أنْ ركبنا في سيارته "الكامري"، متقلبةُ المزاجِ هي كما هوَ، لمْ نتحدثْ كثيرًا، مع أنّني منذ أنْ انطلقتُ من غزةَ إلى أنْ هبطتِ الطائرة وأنا أخططُ لحديثٍ طويلٍ أرهقُ سمْعه فيه، خطّطتُ لأنقل له تفاصيل سفرتي، شكل الناس في المطار، وأنْ أخبره عن الحديثِ البسيط الذي دار بيني وبينَ الطفْلِ ذي العشرةِ أعوام الذي جلس بجانبي في الطائرة، أنْ أريه الصور الكثيرة التي التقطتها في رحلتي، ولكنَّنا فضَّلنا أنْ تمسكَ العيونُ زمامَ الاشتياق.


كان الطريق من المطار إلى بيت أهله الواقع في "حي القصبة" يبعد أربعين دقيقة، وكان قد قُطع بيننا تواصل العيون، فكانت عيناه مستكينةً على الطريق رغمَ أنَّه أبى تركَ يدي، وكانت عيانيَ مستكينةً على جمالِ هذه الأرضِ التي احتضنتني،

أربعون دقيقةً كانت كفيلة بجعلي أستذكرُ الجزائر عند أول مرة رأيتها فيها.


أحمد... هذا ما تذكرته من رحلتي الأولى،

أحمد الجالس بجانبي الآن جاعلاً يده السمراء تُغلِّف يدي خوفًا من أن يكونَ القربُ هذا حُلمًا، فقط أحمد ما أذكره.

كانَ لقاؤنا بسيطًا بعضَ الشيء، لقاءٌ شهده قصر المعارض في الصنوبر البحري في الجزائر العاصمة، في الأول من نوفمبر من العام 20**، كنتُ قد تلقفتُ بينَ يدييّ رواية "كلمة الله" للكاتب أيمن العتوم، التي قرأتها عندَ صدورها، فتحتُ الرواية من منتصفها فظهرت لي جملةٌ كنتُ قد اقتبستها عند قراءتي للرواية:

"إذا غابت مُراقبتك لله حضر الشيطان؛ وإذا غاب الشيطان حضر الله؛ إنّهما لا يلتقيان، ووجود أحدِهما دليل غياب الآخر"،

ابتسمتُ متنهدة وأغلقتُ الرواية وأغلقتُ عينييّ أيضًا، وتنهدتُ بيأسٍ عندما جالت أحداثها في رأسي، وانعكس الألم على ملامح وجهي.

=مسكينةٌ بتول.

فتحتُ عينييّ مستغربةً هذا الذي اقتحمَ خلوة أفكاري، وقلتُ باستغراب:

_ نعم؟

تبسّمَ وقالَ:

= مسكينة بتول، لمْ تكنْ تستحقُ ما جرى لها.

_ كيفَ علمتَ أنّني قرأتُ الرواية؟

= ملامحكِ المتألمة لم تكن لتنشبَ من مجردِ جملةٍ قرأتِها قبل قليل من منتصف الرواية، ولم تكنْ لتنشبَ على وجهِ أحدٍ لمْ يعشْ أحداثَها بتفاصيلها الموجعة للقلب.

نظرتُ له وكلّي حيرة واستغراب وقلت:

_ هل تراقبني؟

ضحكَ حتى امتلأ فمه وقال:

= مجنونة أنتِ،

ثمَّ قال بصوت رزين:

= حركاتك وانفعالاتكِ جذبنَني لأتتبعَ ما تقومين به،

ثمَّ غمزَ قائلاً:

= وجمالكِ غير الجزائري أيضًا.

ابتسمتُ بخجلٍ وهممتُ بالرحيل، فأوقفني قائلاً:

= أحمد.

_ إيمان.

أوقفني مرةً أخرى وقال:

= فلسطينية أم أردنية؟

_ فلسطينية.

= إذن اجعليني أنالُ شرفَ استضافةِ فلسطينية على فنجانِ قهوة.

_ ومَن قال إنّني موافقة.

= لنْ تتركي هذا الجزائري معلَّقًا أمامَ فرصة نيلِ هذا الشرف.

ابتسمتُ على ثقته وقلتُ له:

_ أقنعتني، موافقة.

مدّ يده بطريقة فكاهية وابتسمَ وقال:

= تفضلي يا آنسة.

_ انتظرْ لحظة ...

اشتريتُ رواية "كلمة الله" التي كنتُ ممسكةً بها، فاستغربَ قائلاً:

= ألمْ تقرئيها؟ ماذا تريدين من نسخةٍ جديدةٍ منها؟

نظرتُ له مبتسمةً ولم أُجبه، وأمسكتُ بالقلم الذي أحمله في حقيبتي دائمًا، ودوّنتُ على الصفحةِ الأولى بضعَ كلمات، فقال مرةً أخرى بفضول:

= ماذا كتبتِ؟

ابتسمتُ له مرةً أخرى وقلت:

_ هيا بنا، أما زالتْ دعوتكَ قائمة؟

ضحكَ وقال:

= سأحصل على الإجابات، تفضلي.


انطلقنا إلى مقهىً قريبٍ من مكان المعرض،

كانَت تطغى عليه الأصالة الجزائرية، أعلامُ الجزائر على الجدران، موسيقى "الراي" تصدحُ في المكان، حتى لائحة الطعام كانت عربيّة خالصة، شعرتُ بالألفة في المكان،

جاء النادل وأخذ طلباتنا التي كانت تشمل فنجانيْ قهوة، وأخذ أحمد يعرفني على نفسه،

شابٌ جزائري، يقطنُ الجزائر العاصمة، في التاسعة والعشرين من عمره، مهندسٌ معماري، وقارئٌ.

اكتفى بهذه المعلومات وأشار لي بيده أنْ ماذا عنكِ؟

_ فلسطينية من غزة، في الثالثة والعشرين من عمري ....

قاطع كلامي وصول القهوة، قدّمها النادل، وأكملْتُ:

_ محامية، وقارئة.

= وجميلة أيضًا.

_ ماذا؟

= لماذا اشتريتِ نسخة من الرواية؟

ابتسمتُ له وقلت:

_ لا أعلم، ربما هي البداية.

لم يفهم من جملتي شيئًا، ولم يطالب بمزيدٍ من التفسيرات، فقط اكتفى بالابتسام.أنهينا القهوة ورحلَ كلٌ منّا إلى وجهته.


أسبوعٌ واحدٌ فقط كانَ يفصلنا عن اللقاء الثاني الذي تشكّل أمامَ "مقام الشهيد" المُطل على الجزائر العاصمة،

التقينا هناكَ صدفة، فأخذنا نضحك.

= يبدو أنّ القدر لهُ رأيٌ في حالنا.

_ وما بهِ حالنا؟

= لا شيء، ما الذي أتى بكِ إلى هنا؟

_ أتريدني أنْ أصل الجزائر ولا أزورَ هذا المكان؟

= لا داعي للهجوم يا جميلة، والآن... "تلفّتَ يمينًا ويسارًا"

_ والآن؟

= هل لي برقمك؟

_ لماذا؟

= ربما هي البداية يا جميلة.

ضحكتُ وتبادلنا أرقام الهواتف، وكانت البداية "أحمد".

أمضيتُ شهرين في الجزائر، عرفتُ أحمد، عرفني أيضًا، عرفتُ عائلته، وعرفَ عائلتي، ورجعتُ مرةً أخرى إلى غزة.


استيقظتُ من ذكرياتي على قبلة أحمد التي طُبعت على يدي عند الإشارة الحمراء للطريق، ابتسمتُ له فقال:

= إلى أينَ وصلتِ؟

_ بماذا؟

= بذكرياتكِ في رحلتكِ الأولى للجزائر._

عرفتَ إذن.

ضحك وقال:

= عرفتُ.


أصبحت إشارةُ المرورِ خضراء، وانتقل ناظري إلى أحمد، أخذتُ أتأمله وعدتُ بذكرياتي إلى وقتِ تقدّمِه لخطبتي، ورفضِ أهلي له في المرة الأولى والثانية والثالثة، ليسَ لشيء إلا لخوفهم من فكرة ابتعادي عنهم، ولم يكنْ للرفضِ معنًى في قاموسِ المحبِّ يومًا، فما بالكَ لو كانَ الحبّ بين جزائري وفلسطينية!، وتمّت خطبتنا بعدَ معاناة، واليومَ أنا معه وسأُزفُّ له هنا في الجزائر


توقفت السيارة أي أنَّنا وصلنا، رأيتُ أم أحمد وأباه وأخوته يقفون عندَ مدخلِ البيت منتظرينَ وصولنا، ابتسمتُ لهم ونزلتُ وأنزل أحمد حقائبي، كنتُ متوجهةً إليهم إلى أنْ أوقفني أحمد قائلاً:

= لماذا اشتريتِ نسخةً جديدةً من "كلمة الله" يومها؟ وماذا كتبتِ عليها؟

ضحكتُ كثيرًا وأجبته:

_ أما عنْ "كلمة الله" فكان قد راودني شعورٌ أنّ ما سيكونُ بيننا أعظمُ من مجردِ لقاء، فأردتُ أنْ أُخلِّدَ سببَ لقائنا، وأمّا عمّا كتبتُ فكان تاريخ ذلك اليوم مقرونًا بجملة: "ربما هي البداية".

= اتّكأتِ على صدفة؟!!!

_ إنّ اتّكائي عليكَ أشعرني باستقامتي، وأنتَ كنتَ الصدفة.




ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات ياسمين أبو شماله

تدوينات ذات صلة