قصة قصيرة تحاكي واقع الشباب في غزة، حاصلة على المركز الخامس في مسابقة المؤسسة الماليزية حول موضوع أزمة الشباب في غزة.

**

لم يتلقَ قلبي من قبل صدمةً كهذه، أعلمُ أنّ لعنة الحياةِ التصقت بي فباتت تلاحقني منذُ ولادتي، منذُ أنْ استلمتُ مفاتيحَ حمْلِ مآسي هذه الحياة من أمي التي أسلمت روحها مع أولى صرخاتي المنطلقةِ تعلنُ عن وجودي، منذُ الوهلةِ التي تَوجبَ عليَّ معايشةَ الكبرِ، بالنهاية منذُ أنْ وُضِعتُ.بتُّ على قناعةٍ تامةٍ أنّ لعنة الحياةِ طافت البلاد جلّها، وركنتْ لتستقرَ متغلغلةً في جوانب روحي المرهقة، أأرضٌ خصبةٌ للآلامِ هو قلبي؟ أوجعٌ جديدٌ سيضافُ ليُحنيَ كتفييَّ أكثر؟ أَكُتبَ عليَّ أنْ أعايشَ مرارة الفقد في كلِّ مرةٍ أعطي فيها الأمان لقلبي لينبض؟


والجدير بالذكر أنّني لم أكنْ لأطلقَ سراحَ اللعناتِ لتتبختر مفقدةً لذاتي هُويَّتها، ولم أكنْ لأكترثَ لكلامِ أبي المستمر بأنني شؤمٌ أفقده حبيبته، ولا حتى لتناقل الناس لكلام والدي فيما بينهم مكتفين بإلقاء نظراتٍ ثاقبة تسقط على قلبي كما سقوط شعلة كبريتٍ مهملة من يد طفلٍ متهورٍ على كومةِ هشيمٍ يابسٍ، فلا تضمرُ إلا وقد أخفت الهشيمَ عن الوجود، بل وربما يلحقه أجزاء من الجوار، إلى أنْ أخذ الفزع محلَّه من قلبي وبدأ يراودني شعور اللعنة في يونيو 20**...

لم يكن يونيو 20** بادرةَ خيرٍ بتاتًا، كنتُ فيه كمنْ أرادَ الاستفراد في الظلم الواقع على العالم أجمع فيدعه ليستقر في عقر روحه معلنًا استيطانه بلا أيّ وساطات خارجيّة حتى ..


يونيو 20** كان تخرّجي من الجامعة، والمضحك المبكي أنّ المأساة التي عانيتُ فيها سابقَ حياتي لم تساوِ عُشرًا لمأساةٍ فتحها عليَّ تخرجي، مأساة إيجاد وظيفةٍ تؤويني من أعين الناس المتوقدة، علّني أبرِّؤ نفسي على الأقل، ولأنني ابنُ غزةَ المكلومة مثلي، فإيجاد وظيفةٍ أشبه بالأمر المستحيل، فإما أن تقفَ أمامَ بوابات وكالة الغوث (الأونروا) منتظرًا أنْ تحصلَ على بطالةٍ تعيلكَ ثلاثة أشهرٍ، ربما تتجددُ، وربما تنبرمُ وظيفتك إلى هذا الحد، فتتجه بعدها إلى طرقِ أبواب المطاعم والمقاهي، والمحلات التجارية، والمؤسسات الخيرية لتجدَ وظيفة أبعد ما يكون عن تخصصك الجامعي، نادلاً ربما، أو ناقلاً للبضائع ، أو حتى مروِّجًا في أحد الشوارع لأحد المحالّ التجارية التي لا ترتادها، وإنْ حدثَ وارتدتها لا تعجبكَ لا شكلاً ولا مضمونًا، المهمّ أنّها توفّرُ لكَ قوت يومكَ، وستوفرُ عليكَ نظرةَ الازدراء الملقاة على العاكفين بيوتهم من الخرّيجين.


أو أنّك ستكون من المحظوظين الذين شرعت الحكومة في وضعِ امتحانٍ للتوظيف في عامِ تخرجهم، صحيحٌ أنّ فرصتكَ ستكون ضئيلة نسبةً إلى قلة المطلوبين للوظيفة، وكثرة المُسجِّلين، والذين قد يتجاوز عددهم الآلاف، ولكنّها تبقى فرصة ويجب استغلالها، وإلّا فحالكَ حالُ طارِق كلّ بابٍ متوسلاً عملاً يَرُمُّ أشلاء خيبته.وهنا كانت لعنتي قد أخذت على عاتقها إقناعي بأنّها ساريةُ المفعولِ في حياتي ....

لم تعلن الحكومة ولا وكالة الغوث عن امتحاناتٍ للتوظيف في عامي، تجرعتُ الخبر والتفتُّ أحاولُ إخفاء نفسي عن والدي، ولكنّني كنتُ أعرفُ أنّ المواجهة محسومٌ أمرها منذ البداية، ومع ذلك كنت أطمحُ أنْ أتجرعَ المرارةَ جرعةً جرعة، لا مرةً واحدة، ويا للسخفِ أأنتظرُ تأجيلاً لمرارة جديدة؟!عرفَ والدي بالخبر، ولأولِ مرةٍ لم يذكر أمامي جملته الشهيرة: "أنتَ لعنة منذ أنْ خُلقت"، الحقيقة أنّ والدي بدأت ثورته تهدأ منذ شهرين،

اثنان وعشرون عامًا لم أذكر أنّه حنا على قلبي، ولم تكن عينيَّ تأتي عليه إلا وقد أعماهما بنظراته المنبعثة من عينيه، ولكنّ الأمرَ برمَّته اختلف منذ شهرين، نظراتٌ هادئة، لا جملَ معتادة، صحيحٌ أنّه لم يسامرني خلالهما، ولكنّه كفَّ ازدراءه من وجودي، وهذا بحدِّ ذاته إنجاز.


إعلان وظيفة ..

هذا ما كانت عيناي تبحث عنه طيلة يومي، ولأن الأونروا والحكومة أغلقتا أبوابهما أمام فرصة حصولي على الوظيفة، اضطررت لأنْ أتجاوزهما وأنتقل لمرحلة البحث عن عملٍ في المقاهي، في الأسواق، في أيِّ مكانٍ أبوابُه مفتوحة، ومع تعب أقدامي المتجهة لكلِّ مكانٍ في طريقها للبحث، تعبت روحي، وبالنهاية وجدتُ مكانًا شاغرًا سأحلُّ عليه كنادلٍ ...


في الثامن من أغسطس للعام نفسه، بدأتُ العملَ، قررتُ نسيانَ تخصصي مبدئيًا والتركيز على نيل رضى صاحب المطعم، فلا تخصصي ولا أي شيء في العالم سيفيدني في العمل ويُحتِّم عليَّ الاستمرار فيه سوى نيل رضى صاحب العمل، صحيحٌ أنّ ما أتقاضاه في المقابل لا يتجاوز ال 800 شيقل، إلا أنّهنَ أفضلُ من المكوث بلا هُنّ، وفي ظلِّ وضعٍ كغزةَ، فإنّ الحاصلَ على هذا المبلغ يقعُ في دائرة الحسد، لذلكَّ تحتمَ عليَّ تكثيف جهودي للحفاظ على وظيفتي من أعين النّاس.


واستمرت معافرتي في هذا العمل، إلى أن عبرَت نسمةٌ طفيفةٌ داعبت خلجات صدري، تلفّتٌّتُ يمينًا ويسارًا أبحثُ عن مصدرها، إلى أن اهتدى قلبي عليها، يا لجمالِ فيروزيّتيها اللتين خطفتا نظري من كلِّ شيءٍ سواهما، قادتني قدماي لطاولتها التي جلست عليها، وقفتُ بجانب كرسيِّها ولم أتفوه بشيء، الأمر الذي جعل خديها يشتعلان وهي تقول: عفوًا؟

انتبهتُ لمَا فعلتُ، وسعلتُ قليلاً وقلتُ: جئتُ لآخذ طلبكِ.

ضحكتْ: وأينَ ستكتبُ الطلب؟

شعرتُ بنفسي أتعرق من الخجل وعدتُ أدراجي لأجلبَ دفترَ الطلبات، وعدتُ بعد دقيقتين قائلاً: طلبكِ يا أنسة؟

ابتسمت وقالت: كوبٌ من الحب ... ،

وتنبَّهت لكلامها فسرعان ما أخفضتْ رأسها وعادت تقول: كوبٌ من القهوة، فقط قهوة.

عدتُ إلى مطبخ المطعمِ كأنني محمولٌ على أجنحة الطير، فتجرأتُ هذه المرة ولأول مرة ووضعتُ لها رقمَ هاتفي في الصحنِ الذي يحمل كوب القهوة، وعدتُ لها بالطلب، انتبهتْ للورقة، ولم تعقِّب بأي شيءٍ ... ومضت راحلة بعد شربها للقهوة، لم تحادثني يومها، ومع ذلك استمرتْ في المجيء إلى المطعم، ولم أجرؤ بأنْ أقدّمَ لها الطلبات مرةً أخرى، ولمْ يتحمل قلبي قربها البعيدُ هذا، فقط كنتُ أنتظرها، أقطعُ عملي لأتأملها، وفي وصلةِ تأملي قاطعني زميلي في العمل قائلاً:= ابنةُ جيراننا ...

انتبهتُ له وقلت: ها؟!

= ابنة جيراننا هي، فتاة رائعة من عائلة مرموقة، والدها صعب المراس ولكن لا بأس بالمحاولة، تستحق يا صديقي، تجرَّأ وافعلها.

= ماذا تقصد؟

= تقدَّم للفتاة، الفتاة جوهرة، وأنتَ تستحقها.

= "من الباب للطاقة" أتقدمُ لها، ثمّ هي رفضتني مسبقًا ... وأخبرته ما حدث،

فأخذ يضحك.= ماذا تنتظر من الفتاة يا أحمق؟، أنْ تهاتفكَ هي؟ يا لقلّةِ معرفتكِ بالنساء.ورحل،

فانطلقتُ مندفعًا نحوها وجلستُ قبالتها، فنظرت لي مبهوتةً بفعلتي وقلتُ لها:= دعينا نتزوج.

نظرت لي وامتعضت قليلاً ثمّ وقفت وقالت وهي تلملم شتات أشيائها عن الطاولة:= وأخيرًا تجرأتَ وفعلتها، يا مرحبًا بك في أيِّ وقتٍ تأتي، خذ عنواني من زميلك.

ابتسمت ابتسامة خفيفة ورحلت، ووقفتُ مشدوهًا من جمال اللحظة.


بداية الحزنِ كانت سوسن ..

تقدمتُ لها، وكلِّي أملٌ بالموافقةِ التي أبدتْها هي، ولكنّ القدر لعب لعبته، لأرجعَ للنقطة الأولى التي حاولتُ الهروب منها، وظيفتي التي رسيتُ عليها من تلاطم عثرات الحياة.

أكانَ يستحقُ هذا كلّه؟،

شعرتُ كأنّ استقامة الخط باتت وشيكة، تسمُّري أمام رفضِ والدها القطعيّ بحجة وظيفتي غير المناسبة لمقامِ ابنته كانَ واضحًا، وظيفتي التي صارعتُ من أجلها إرضاء مديري للاستمرار فيها لم تعجبه، وظيفتي التي خضتُ تجربةَ الوقوف تحتَ مجهر الحسد من آلاف الخريجين مثلي الذين لم تسنح لهم الفرص للعمل في مجال دراستهم الجامعية، ولا حتى في مجالات أخرى، لم تنل إعجابَ والدها، ألم تشفعْ له دراستي الجامعية؟ على الأقل أنا في وظيفتي هذه بسبب ظلم الواقع الذي نصارعه في غزة لا تقصيرًا مني، أكانَ يجبُ أنْ تلغى أحلامي الأخيرة التي كان مجملها:

بداية جديدة أبدأوها مع من ثارت دقات قلبي أمام فيروزيتيها؟

تساؤلاتٌ وقفتُ أمامها، لا إجابةَ لها سوى أنّه لا وظيفة لي ترقى بأنْ تجعلها لي، والحقيقة أنّه لا وظيفةَ ترقى بأنْ أكسرَ روتين شبابي.


لم أصحُ من تساؤلاتي إلا على يد والدي التي لا أذكر أنّها لامستني يومًا، والتي أخذت تربت على كتفي اليوم، لم أستوعب فعلته، ولكنّه جلس بجانبي ودون أي مقدماتٍ قال:

= كانتْ والدتك مصابًا قلبُها، أصرّت على مجيئك رغم تحذير الأطباء لها، لكنّها عنيدة، جئتَ أنتَ ورحلتْ هي ..

تنهّد قليلاً ثمّ أكمل:= لم يكن مجيئك سبب وفاتها، أعلمُ ذلكَ منذ البداية، ولكنني فضَّلتُ أنْ ألقي باللوم عليكَ لأخفف عذاب ضميري، رغم أنّه لم يرتحْ ولو للحظة، ولا أراحكَ أيضًا.وفاتها كانت لعدم توفر علاجٍ أستطيعُ صرفه لها، حدّادٌ مثلي ركن شهادته لقلة الوظائف الأشبه بعدمها، وتعلَّم الحدادة بناءً على طلب المجتمع، الوظيفة التي كانت تريقُ شبابي على بضعة "شواكل"، كانَ لابدَّ أنْ يعايشَ صراعًا كهذا ويقعُ عليه حِمل الظلم الواقع على غزة الذي أثَّر عليه وعلى ولده،

امضِ يا بني في ساحاتِ الله، عافر ولا تقفْ أمامَ رحمةِ مديرك، ولا أمامَ رحمةِ رفضِ والد سوسن، تستحقُ الحياةَ كما لا يستحقها أحد.


كلمات والدي بثّت فيَّ شعورًا وازى ألم الرفض وألم انعدامِ الوظيفة لكنّه بالعكسِ كان، لأول مرةٍ أشعرُ بأنّ لي والدًا أحقد معه على الوضع الراهن في غزة، ونزيدُ تمسُّكًا فيها رغم ألمِ الفقدِ الملاصق لنا من كلِّ النواحي، ولكنَّها غزة، سأعافرُ من أجلها بمريولِ النادلِ الذي أرتديه، وسحقًا للشهادة الجامعية إن كانت ستتمكن مني وستحقق مُنى المحاصِرين بأن أتركَ غزة ..

على الأقل ليسَ بعدَ أنْ وجدتُ والدي ...


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات ياسمين أبو شماله

تدوينات ذات صلة