تعلمنا في كلية الطب أن درجة التأثر بأي سم لها عوامل شتى تخص محورين، أولهما السم، وثانيهما المسموم.
نوع السم وتركيزه وكميته، وكذلك عمر المسموم وحجمه وحاله، باختلافهم تختلف السمية وتختلف طريقة التعامل معها.
ولا أقصد هنا أن أعيد على عقولكم ما تدارسناه في محاضرات السموم السريرية والطب الشرعي، بل آخذ منهم ما أود إسقاطه على صيحة ("ترند") من صيحات العصر، هي صيحة انطلقت من الوعي المتزايد الملحوظ في المجتمع وأصبحت معلوكة بشكل مقزز بعد أن غلبت كفة جهل المجتمع كفة وعيه.
لنقل مثلا أن رجلين كانا في مكانٍ فيه أفعى، أحد الرجلين كان يرتدي ملابسًا واقية بينما الآخر يرتدي ملابسًا خفيفة. عندما أحست الأفعى بالخطر قررت أن تباغت الرجلين وعضت كلا منهما في ساقه. الأول، ذو الملابس الواقية، لم تستطع الأفعى أن تصل إلى جلده، أنيابها نفثت السم بين نسيج ملابسه، بينما الآخر، ذو الملابس الخفيفة، استطاعت الأفعى أن تبث السم في دمه.
أسئلة كثيرة يمكن طرحها هنا: هل تعمدت الأفعى أن تؤذي الرجلين؟ كلا، هي فقط استخدمت طريقتها لتحمي نفسها من خطر استشعرته. هل تأثر الرجل الأول بالسم كتأثر الرجل الثاني؟ كلا، الأول لن يتأثر والثاني يجب أن يأخذ الترياق في أسرع وقت ممكن. والأمثلة تَكثُر.
وبالانتقال إلى واقع العلاقات البشرية، الأمر لا يختلف كثيرًا. في تعاملاتنا مع بعضنا البعض، نستخدم أساليبًا اكتسبنا معظمها دون وعي، هي أساليبٌ قد زرعت فينا منذ نعومة أظافرنا، كلها هدفها الأساسي أن تحمينا من أي ضرر، درجة أننا نستخدمها كردود أفعال تلقائية (كأن يهم أحد بلكمك فيكون رد فعلك أن تنأى بوجهك عن اللكمة).
من هذا المنطلق يمكن تفسير جُل تصرفاتنا مع الغير، كل فعل نقوم به، وكل رد فعل نتخذه ما هو إلا ترجمة لاستراتيجية اكتسبناها سابقا.
وبناءً على ذلك يمكننا أن نُعَرِّف العلاقات السامة بأنها علاقات يستشعر فيها المرء الخطر بسبب تصرفات الطرف الآخر، أو هي علاقات يتم فيها تفسير تصرفات الشخص الآخر كمصدر للخطر رغم أنها قد لا تكون خطرًا بشكل حقيقي.
لذلك قبل أن نُطلق على شخص ما بأنه شخص سام، علينا أن نطرح بعض الأسئلة على الطاولة ونجمع إجابات عنها:
ما السياق الذي أدى لظهور هذا التصرف؟
كيف جعلني التصرف أشعر تحديدًا؟
ما الأفكار التي دارت بعقلي نتيجة هذا التصرف؟
ماذا بدر مني كرد فعل لهذا التصرف؟
لماذا اخترت أن أرد بهذا الشكل بالتحديد عوضا عن أي طريقة أخرى؟
بالإجابة عن هذه الأسئلة نأخذ جولة استكشافية في متاهات عقلنا اللاوعي، وخطوة تلو الأخرى نستطيع تحديد نقاط قصورنا أو الطريقة التي قد نكون ساهمنا بها في سُميّة الموقف بمعرفة ما الذي جعلني أتأثر بالسم لهذه الدرجة.
وما أن نفهم بشكل كافي الطريقة التي أثر بها علينا الحدث أو التصرف الذي نشك في سُميته والأسباب التي أدت لهذا التأثر، يمكننا أن ننتقل إلى الخطوة التالية، وهي التحاور مع الطرف الآخر. أقله أن نضع في الحسبان احتمال ألا يكون السم سوى كل ما يعرفه عن الدفاع عن نفسه، في محاولة لفهم ما رواء تصرفه وسماع القصة من وجهة نظره:
ما السياق الذي دفعه لمثل هذا التصرف؟
كيف كانت مشاعره نحو ما حدث (السياق الذي دفعه للفعل)؟
ما الأفكار التي دارت بعقله حينها (التي جعلته يتصرف بهذا الشكل)؟
لماذا اختار أن يتصرف بهذه الطريقة عوضا عن أي طريقة أخرى؟
وبالإجابة عن هذه الأسئلة نمنح الطرف الآخر وأنفسنا فرصة لمعرفة نمط تفكيره. وبعد ذلك، من الضروري أن نعرف كيف تأثر الطرف الآخر برد فعلنا عليه:
ما المشاعر التي اختلجته نتيجة رد فعلي؟
ما الأفكار التي دارت بعقله نتيجة رد فعلي؟
وليس الهدف هنا أن نستجوب الطرف الآخر أو نُجلِسَهُ على كرسي الاتهام، وإنما هو حوار نتبادل فيه مشاعر صادقة ونعرض فيه جزءًا من إنسانيتنا. وبيئة الحوار أهم من الحوار نفسه، حريٌ أن تكون بيئة الحوار مساحة آمنة للطرفين، هدفها أن نخرج من الحوار وقد وصلنا إلى درجة أعلى من الفهم، وقد خطونا خطوة جديدة نحو أنفسنا ونحو الطرف الآخر. ولابد من أن ينتهي الحوار بالإقرار والاعتراف بمشاعر بعضنا وتقديرها مهما كانت، ثم الانتقال إلى الحديث عن الحلول الممكنة التي ستساعدنا على عدم تكرار مثل هذه الأنماط من الأفعال والتصرفات. وشيئًا فشيء، بتحقيق كل هذه الخطوات بصبر وحكمة، تتحول سُميّة الأفعال إلى دوافع نحو التشافي والتعافي للطرفين، وتنمو العلاقة لتصبح مُحرِكًا للإحسان ومصدرا للجمال والحب.
إذًا:
متى تكون العلاقة سامة؟ عندما يتجاوز السم فينا سعة فهمنا وسعة جهودنا في الإصلاح.
متى يكون الشخص سامًا؟ عندما يأبى أن يتحاور وأن يفهم ويصلح.
ويجب هنا الانتباه إلى الفرق بين العلاقات السامة والعلاقات المؤذية: فالأولى قد يكون ضررها دون وعي، وبناءً على ذلك يمكن إصلاحها بإيقاظ الوعي، أما الثانية فالضرر يتم إلحاقه بوعي كامل مع سبق الإصرار والترصد، وهنا لا يقع على عاتقنا سوى النجاة بأنفسنا.
وأعيد التنويه على أني لا أدعو إلى تحمل أي أذىً صريح أو السكوت عنه، سيان كان نفسيًا أو جسديًا، مهما بلغت شدته، ومهما اختلف نوع التعنيف. يجب على الإنسان أن يقف حازمًا في وجه من ينتقص من إنسانيته وكرامته دون وجه حق، ولا شيء قد يغير ذلك.
وأؤكد أن غرضي هنا ما هو إلا دعوة للتحاور، أولًا مع الذات وثانيًا مع الآخر، ودعوة للفهم والإصلاح. عندما نفهم، يكبر في صدرنا مساحة للرحمة وتصغر مساحة الغضب والسخط، وبذلك مهما كان مآل العلاقة، فإننا نضمن أن نجد في كل حال السلام؛ لعلمنا أننا قد حاولنا بما أوتينا من قوة أن يحيا الحب فينا وبيننا.
تعلّم أن ترى الجمال في شروخ القبح، وتعلّم أن تعطي الحب في أحلك ظلمات الكراهية. حينها فقط تنجو.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
مبدعة يا فاطمة❤️