يمكنك استثمار شعورك بالارتياح هناك؛ بعقد صفقةٍ مع المكان الثالث ليوفر لأفكارك المساحة الآمنة لها.
عندما يسألنا أحدهم: كيف حالك؟
قد تستند حيرتنا على جواب: كُل شيء على ما يُرام أو ما شابه ذلك من إجابات ؛ حتى لا نتكبد عناء شرح ما لا نطيق الحديث عنه، أو أننا بالفعل لا نكون على دراية بما نشعر به حقاً في ذلك الحين؟
وأنا كذلك، لطالما اسعفتني هذه الردود في مواسم الشتات، التي تطمس قدرتي على تمييز ملامح فصول السنة الأربعة، وأفقد فيه قدرتي على فهم وسماع أصواتي الداخلية، وكأنّ هذه الأصوات المرشدة ضلّت طريقها إلى روحي، لكننّي كُنت معذورة حينها، فأنا لا أجيد الإنصات في حضرة الصخب، ومع ذلك أعترف أنّني سلّمت نفسي للعشوائية مِراراً وتكراراً بتجاهلي للإنصات عما يدور بداخلي.
أذكر أنّه في إحدى مواسم شتاتي، ضجّ صوت في داخلي تفوق حتى على أصوات الضجيج بالخارج، كان هذا الصوت يردد سؤالاً، جعلني أفكر ملياً، ماهو مرامي الذي أستند عليه في جوابي عن حالي؟ وكأن الجواب الذي لطالما أسعفني، سئم مني!
ظل هذا السؤال يجيء على فترات، بحزمةٍ من الحيرة التي تترصد لسكوني الذي أصطنعه.
كنت أرشقها بحجر التجاهل، وساعدني ارتيادي لبعض الأماكن، أن أهرب من هذه العشوائية التي تعتريني. كنت أذهب إلى هذه الأماكن برفقة قلمي ودفتري مع كوبٍ من القهوة، لأصنع لقاء افتراضي بيني وبين أفكاري ، واسكب كل مشاعري فيها، فأسرد كُل ما يدور في عقلي وقلبي.
ولأننّي أحسست أنّ العشوائية بدأت تلفظ أنفاسها الأخيرة في روحي، تعمدت تكرار لقاءاتِ كثيرة من هذا النوع، في حضرة قلمي ودفتري، ومع الوقت بدا لي أن الكلمات التي اسكبها على دفتري، لم تعد عبارةً عن كلمات مرسومة بحبر جاف، فقد أصبحت هذه الكلمات ناطِقةً، وكأني نفخت فيها شيئاً من روحي، فأصبحت تأتي على استحياء وتُربّت معانيها على روحي، حتى زال الحرج بيننا، وأصحبنا أصدقاءً.
سأشارككم إحدى حواراًتنا أنا وأفكاري: سألتها بلسان المعاتب المحب: لماذا كنت تأتين بشكل يفقدني صوابي ، فأجابتني قائلة: نحن بنو الفكرة نأتي على استحياء، أصواتنا لا تأنس الضوضاء الخارجية ولا نأتي وحدنا دون دعوة منكم، واقتبست ما قاله جلال الدين الرومي :
" الإلهَام الَّذي تبحَث عَنهُ موجُود فِي دَاخِلك مسبقا ، فَقَط اصْمت وانصت."
أذكر لكم دراسة سمعتها ذات مرة، والتي تقول أن الشخص العادي تنتابه أكثر من 6000 فكرة في يوم واحد.
كنت ممتنمة حقاً للفرصة التي سمحت لي فيها تلك الأماكن أن ألتقيني من جديد، ولا شك أنه بسبب ترددي على هذه الأماكن صُحبة القلم والدفتر هو من أضفى على علاقتي بأفكاري شيئاً من الألفة ، وبالطبع أعانتني على 6000 فكرة ( التي وصلت في كثير من الأيام إلى 6000جيجا فكرة)، ولكم أن تتخيلوا كيف سيطرتُ على زمام الأمور في كثير من المرات 😎!
أعلم جيدا أنكم الآن أصبحتم وجبةً للفضول، وتودون معرفة الأماكن التي كنت أرتادها.
حسناً حسناً سأخبركم .
أتحدث عن المكان الثالث، الذي اكتشفت لاحقت أنه كان ولا زال ملاذ للكثيرين.
لكن ما هو المكان الثالث؟
كما تقول لبنى الخميس، المكان الثالث هو متنفسك، بعيداً عن العمل وجدية مهامه، إنه المساحة الآمنة التي تجمع مزاجك الخاص وأفكارك المستقلة بمحيطك الاجتماعي من أراء وحوارات.
المكان الثالث هو مصطلح صاغه عالم الاجتماع الأمريكي راي أولدنبورغ Ray Oldenburg في كتاب له بعنوان: The Great Good Place “، والذي صدر عام 1990.
وذكر أولدنبرغ أن الإنسان يحتاج إلى ثلاثة أماكن مختلفة وهامة: المنزل، العمل، ومكان ثالث غير محدد، وبطبيعة الحال لا نحتاج لذكر السبب الرئيسيي لاحتياج الإنسان للمنزل والعمل، فهو واضح بكل تأكيد.
المكان الثالث يمكن أن يكون مقهى الحي، حديقة، مكتبة أو صالون الحلاقة، أو أي مكان يخلق لك الراحة.
بالنسبة لي فقد كان المكان الثالث هو حديقة منزلنا القديم، بعد ذلك سطح منزل جدتي وعلى الشاطىء، ومؤخراً أصبحت ارتاد مقهى .
في المكان الثالث رفقة الكتابة، يمكنك استثمار شعورك بالارتياح؛ لعقد صفقةٍ معه ليوفر لك البعد الثالث الآمن لأفكارك، التي لن تجد فيها من يحكم عليك، وقد تلتقيك لأول مرةٍ بشكل لم تعهده من قبل.
وهكذا صادقت أفكاري، ماذا عنك، ما هو المكان الثالث الذي ستختاره ليكون مُتنفساً وبعداً ثالثاً ليسمح لك أن تسمع أفكارك؟
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات