"علمتني الرياضيات: أن العددَ السالب كلّما كبُرت أرقامه كلما صغرت قيمته، والمتعالين على الناس كذلك."
عندما كنتُ في الصّفوف الابتدائية الأولى، لم أكُن أعرِفُ سببَ إعطائِنا مادّةَ الرِّياضيَّـات الكئيبة في المدارس، وكنتُ أجهلُ -تمامًا- كُلَّ الأسباب المُوصِلة إلى هذا الهدف، سِوى أنني يجب عليّ أن أعرفَ عددَ التُّفّاحاتِ التي أُكِلَت، والكُراتِ الحمراء والبيضاء داخل مجموعةٍ من السِّلال، وواجبي البيتِيّ هو تلوينُ مجموعةِ العصافيرَ التي تُعبِّر عن الرقم ثلاثة أو خمسة.
في المرحلة المتوسَّطة تذمّرتُ جدًا من كونِ هذه المادّة في المناهج الدراسيّة ما تزال تُعطَى، ولها الحَظُّ الأكبر والأوفر من الاهتمام، وسطوتها على حصصِ الجدول اليومي المختلفة؛ أعني حِصَّة الرياضة اللذيذة مثلًا، أو حصّة الحاسوب المُمتِعة أو حَتّى درسَ الأحياء اللافِت للانتباه بمواضيعه المُهمَّة عن مُستقبلنا نحنُ كَشبابٍ مُراهقين في متوسّط أعمارنا.
ومع تدافُعِ الأيامِ والسَّاعات أصبحتْ هذه الحِصّة بالنسبة إليّ أشدَّ مقتًا من الضُّرةِ على ضُرَّتها، وما أبرحُ أن أطرحَ الأسئلة على أساتذتي وزملائي الطلَبة حتى أعرفَ أهمية هذه المادة أو فائدتها وعوائدها عليّ كشخص، ولا أجدُ ما أُثلِجُ بهِ صدري، وأُوسِّع لأجلهِ مداركي الضَّيِّقة آنذاك.
لماذا نأخذ هذا الموضوع؟
ماذا سنستفيد منه في حياتنا اليومية؟
لماذا عليّ أن أعرف قيمة (الپاي والجيب والجتا)، وأنا في يومي كُلِّهُ لا أفيدُ منها شيئًا، عليّ جمع النقود في جيبي، ومعرفة كم تُساوي أو طرحها لمعرفة كم يَبقى منها! وشرُّ البليَّةِ ما يُحزِن ويُضحِك في آنٍ واحد أنني -ومن فَرْط ما كنتُ أجدُه من هذا العذاب اليومي-؛ كنتُ أتخيّلُ ذلكَ الشخص الذي وضعَ هذا العِلْم أنهُ لا يزال حيًّا؛ فأُسرعُ إليه حتّى أعرفَ مكانَهُ وأبلُغَهُ وأفعلُ بهِ وأهتِك، وأعزِمُ على إنهاكِهِ ضربًا، ثُمّ يموت على عينٍ منّي ويشفي اللهُ بموته صدري، وأرتاح من كُل هذا الخِزي والمَقت! لا غرابةَ من هذا الخيال العنيف لطالبٍ في المتوسط من عمره؛ لأنّ "الجاهل عدوّ نفسه"، فكيف يكون للآخرين!
وصلتُ إلى مرحلة الثانوية العامّة؛ وأُجبِرتُ مُكرَهًا أن أُعايشَ الرِّياضيِّـات بكاملِ حذافيرها، وأخَذْتُ أجمعُ من هنا وهناك، وأبحثُ في هذا وذاك، وأسعى أكثر وأكثر حتى أصلَ لحلِّ مسألةٍ مُعيَّنة أو معرفةِ سبب وجود السالب في مُعادلة ما؛ وبعد ذلك تيقّنتُ -مُتأخِّرًا مع أسفي- أنّ الرِّياضيِّـات لا تقتصرُ على جمعٍ وطرحٍ، وجيبِ زاويةٍ أو جتاها، وأنها ليست فقط كومةً من التعابير الحسابيَّة تعالَموا علينا عُلماء الرِّياضيَّـات بإيجادها لنا، بل إنني وجدتُهُ منهجًا نستطيع إسقاطَهُ على حياتنا اليوميّة، ومُشكلاتنا العَصيبة، وعلاقاتنا السَّقيمة، وحوادِثِ أيَّامِنا وأحوالنا، وجدتُهُ يُسهمُ في تدريبِنا على مُرونةِ التعامل مع الأشياء الكثيرة من حَولنا والأمور فوق الإدراك تمامًا، أيقنتُ أننا نستطيعُ بهذه المنهجية الاتّكاءَ على أُسُسٍ مُشتركةٍ لِإيجادِ الحلول المُناسبة للمُشكلات الطارِئة، وطرح البدائلَ تجاوزًا من أجلِ تحقيق هدفٍ مُهم، وإمكانيةَ تقبُّلنا للآخَر والاتفاقِ معهُ حَتّى وإنْ كانت وِجهةُ نظرهِ تختلفُ عن وجهةِ نَظري طالما أنهُ سيصلُ لنفسِ النُّقطة ولكن بِطُرق مُختلفة الاتجاهات.
ماذا تقصد بكُل هذا؟! دعني أُخبركَ ما أقصده:
عندما نشرَعُ في حلِّ مسألةٍ رياضيّة ما؛ فإننا أمامَ مُشكلةٍ فعليّة واقعيّة يجبُ علينا أن نصلَ إلى حلِّ يُرضي جميعَ الأطراف منطقيًا؛ فتُرانا نبحثُ عن أدَقّ التفاصيل في المسألة (المُشكلة) لنتمكّنَ من الحكمِ عليها ومعرفة مضمونها سواءٌ من ظاهرها أم بسبب شيء كمُنَ وراءَها؛ ثُم نأخذُ مُتنَقِّلين بطُرُق الحل المختلفة هُنا وهُناك بهدفِ الوصول لنفس المُراد (الحل)، وإننا في هذه المسألة يجبُ علينا أن نسيرَ على قوانينٍ مُقيِّدة حَسْبَ مَعالِم هذه المَسألة، فمثلًا:المُعادلة التربيعيّة الكاملة تختلف عن الفرقِ بين مُربّعين في الرِّياضيَّات -حتّى وإن تشابهت في بعضِ ظاهرها-، ومساحةُ المُربّعِ تختلفُ عن مساحة المُكعب وهكذا بين المُعادلات الأُخرى؛ فاشتراكُ المسألة (المشكلة) في بعض الأمور الظاهريّة أو الباطنيّة لا يعني تشابه الإجابات (الحلول) في كلٍّ منها.
حتمًا يقودنا هذا المَنهج الرياضِيّ إلى أنَّ "لكُلّ مقامٍ مقالًا" في تفاصيلِ حياتنا وعلاقاتنا، وأنَّ لِكُلِّ مُشكلةٍ تواجِهنا وتُجابِهنا حلولًا تليقُ بملامحها وأسبابها المتعلقة بها -بغضّ النَّظر عن مُختلف الطُّرق المُؤدِّية إليها-. ولو تأمّل الواحدُ فينا لوَجدَ أنَّ هُناك مسائلَ رياضيّة لا تحتاجُ لبُعد نَظر، فيمكنكَ وضع القانون والتطبيق عليه مُباشرةً، وهُناك مسائل -على عكسها تمامًا- تحتاج منك لخبراتٍ سابقة ودقّة في المُلاحظة وفِقهٌ في فَهم المَسألة (المُشكلة) وتمحيصِها وتدقيقها على أكمل وجه، حتى تخرُجَ بحلٍّ صحيحٍ صائبٍ يُرضي الأطراف جميعًا. كحال أي مشكلة في حياتك.
ونُلاحظ حقًا أنَّ هذه المادّة تُدرِّبُنا على تقبُّل رأي الآخر (اختلاف طُرُق الحَلّ)، وهي بصورةٍ أُخرى (الحوار الاجتماعي)؛ فنجد أنّ الأُستاذ فُلان يضعُ حلولًا للمسائل المختلفة على طريقةٍ مُعيَّنة، وآخر يُبدع في طريقتهِ الخاصّة المُبتكرة، ولكن لاحظ أنَّ جميعها طُرقٌ صحيحة توصِلُ بنا إلى الحل ذاته، من غير تزمُّتٍ في المنهج أو تَعصُّبٍ في الرأي أو تشبّثٍ في المَذهب.
وبصورةٍ أو بأُخرى تُلهِمُنا الرِّياضيَّـات أنَّ الاختصارَ في الحُدودِ الجبريَّة وسيلةٌ لنهايةِ حلّ المَسألة كما في العلاقات الاجتماعية، فاختصارُ المراسلات والمُقابلات والاجتماعات مع (سين) من الأشخاص هوَ بدايةُ نهايةِ العلاقة، والوصول لحلِّ العلاقة سواءٌ يُرضي أو يُسخِط أحد الطرفين.
وتُلهِمُنا أيضًا أنَّ السالبَ مهما عَلَت منزلتهُ العدديَّة يبقى سالبًا، والواحدُ المُوجِب أكبرُ منهُ منزلةً برغمِ قلَّةِ منزلته واضمحلال حجمهِ ودُنوّ مكانته؛ كذلك الناس في الواقع المُجتمعي، مهما عَلت كراسيّهم ووِزاراتهم وَعلَت مكانتهم وهُم فاقدو أمانةٍ ونخوةٍ وطيبِ أصل (سالب)؛ فإنَّه يبقى الخَيرُ في الأشخاصِ البُسطاء أصحابِ المعادِن الجوهريّة (الموجب) بالرغم من حَقارَةِ ظاهِرهم أمام الجمعِ الغفير من العقولِ التافهة السائدة في المجتمع.
تلهِمُنا أنَّ المُتغيِّراتِ المُتشابهةِ إذا ضُرِبَت ببعضها جُمِعت قُوّتها وإذا قُسِّمَت قلَّت، كَمثلِ الأشخاص الإيجابيين في المجتمع كُلَّما تَضارَبت آراؤُهم (الحوار والنقاش) في وِجهاتٍ ومسائلَ مُجتمعيَّة مُهمَّة؛ كُلَّما ازدادت قوّتهم وارتفعت طاقتهم شيئًا فشيئًا، ولو تقلّصَت هذه النماذج في المُحيط ضَعُفَت القوّة وتشتّتَ البأسُ.
صديقي القارِئ هذا المنهج الرياضيّ ألهمني أن أصِلَ إلى الهدف بأقلِّ جُهدٍ مُمكن، وأقصَرِ طريق مُوصِل، وإنّهُ لا مجال لرفض الحل الصائب حتى وإن اختلفت طريقته، وألّا أرى المشاكل (المسائل) من وجهة نظرٍ واحدة فقط، ولا من تركيبةٍ دماغيّةٍ ضيِّقة. المرونة والأخذ والردّ والحوار والكثير أُلهِمتُهُ من الرياضيّات؛ فماذا ألهَمْتُكَ في مقالي هذا؟!
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
أهلًا مَيس
في الحقيقة أنا أشعر بشعورك تمامًا، وأعتقد أنك قرأتِ المقال، وعرفت حقيقة بُغضي لهذه المادّة.
ولكن، الثانوية العامة ليست خَيار بل هي واقع حقيقي نُجبر عليه حتى نصل للاختيار (المرحلة الجامعية)؛ لذلك، تعاملي مع المادة على أساس المصلحة، اجلسي مع كتابك وقولي له بالحرف الواحد:
سأكون معك يوميًا لمدة (كذا ساعة) وأنا كارهة لك، ومع ذلك سأجتاز الثانوية العامة وستُقدّر مجهودي ووقتي الذي سأبذله؛ سأتغلب عليك، كُن مُدركًا لذلك.
حُبًا وكرامة يا أ. خَطّاب 💛
جمّل الله أيامك أ. فاطِمة وليد 🎉🌴