إلى متى سيبقى التراث العربي عُرضة للتغويل والشيطنة؟


كثيرًا ما يتصدَّرُ العوامُّ والمُبتدِئُون في تنصيبِ ذواتِهم حُكّامًا على الكُتّابِ وتصانيفهِم، والأُدباءِ وتآليفهِم، والقدحِ بالكاتب وفنِّه، والعالمِ بعلمهِ، والأديبِ بنقله؛

فنجدُ الطالبَ المُتخصِّصَ في مساقِ الشريعة الإسلاميّة -مثلًا- يقدحُ بكُتبِ الأدبِ وصحّةِ أسانيدها ورواياتها مُعتدًّا بما عندهُ مِن سبيلٍ في منهج الجرحِ والتعديل لرجال رواة الحديث، وهناك نماذج كثيرة ممن تعالَم -وهو غيرُ مُطَّلِع فضلًا على أنه غير مُتخصِّصٍ- في نقل آراء مشايخهِ ومُعجَبيه من غير تمحيصٍ لهذه الآراء أو تدقيقٍ لها وحتى من غير إنصافٍ وموضوعيَّة.





يقولُ أحدُهُم -مُتحذلقًا-:


"عليكُم الحذر من كتابِ الأغاني فإنَّ فيهِ بعض الروايات التي لا تصحّ"


ولا أدري لماذا لا تَصِحّ، وبأيّ ميزانٍ لا تصحّ!

أهوَ من منظورٍ شرعِيٍّ، أم أدبَـيّ؟ أم أنه قرأ نُتَفًا من رأيِ العلماءِ أو المشايخ عن شخصيةِ أبي الفرج الأصفهاني -صاحب الكتاب- أو حتى منهجهُ في التأليف فصارَ يُحذِّر من الكتاب أيّما تحذير؟!


إذا أردنا عرضَ موضوعِ الطعن في الأغاني -على سبيل الذكر لا الحصر-

من منظورِ الأدبِ والشرع؛ فلا يصحّ لكَ أنتَ كطالبٍ في الشريعة أن ترجعَ وتستشهدَ بكتابٍ أدبِـيّ يحملُ في طيّاته الكثيرَ من الأخبار والقَصَص المنقولة والمأثورة؛فهذه الكتب حَوَت كُل غثٍّ وسمين؛ حتى أنه قيل: "بلغ كتاب الأغاني لأبي فرجٍ الأصفهاني أربعةً وعشرين مُجلّدًا ضخمًا"؛ فلا يصحّ لك أن تطعنَ في كتاب أدبِـيٍّ موسوعِيٍّ شاملٍ كونه يحمل بعض الروايات التي لا تصحّ.


إنَّ كُتُب الأدب من صِفَتها أن تأخذَ من كُلِّ علْمٍ بطَرْف؛ فلا يمكن أن نجزمَ منها بالدليل القاطعِ في العقيدة مثلًا؛

لأنَّ طالبَ حُكمٍ في العقيدةِ الإسلاميّة لا يذهبُ لكتاب عيون الأخبار لـِ ابن قُتيبة، وطالبَ صحّةِ حديثٍ نبوِيّ لا يكونُ كتابَ نفح الطّيب لـِ المَقَّرِيّ مرجعًا له في الجرح والتعديل لرجال الحديث، وطالبَ تفسيرٍ لآياتٍ قُرآنيّة لا يستندُ على كتابِ الأمالي لـِ أبي علي القالي -على مافيه من غرابة في التفسير وسعة نظر-.

فهذا التخبُّط البَحثي -وإن حصل-؛ فيُعزى لجهلِ الباحثِ في تحقيق مآربهِ، ونيلِ مطالبهِ، ومعرفةِ مصادرهِ التي من شأنها مَدَّهُ بمرادهِ وتحصيل ما ينفعُ بحثَه ومرامَه.



ثمَّ إنَّ المُفتيَ أو العالِمَ أو الشيخَ أو الشخصَ الذي زجرَ العامّيّ أو الباحث المتخصِّصَ لقراءةِ هذه الكتب بحُجّةِ أنَّ هذه الكُتُب تحملُ في طيّاتها الأحاديثَ المغلوطة أو الأسانيدَ المقدوحة؛ فإنه ومع -تقديرنا له- مُخطِئٌ لعدة أسباب:



  1. نسفَ جهدَ عالمٍ من علماء الأدبِ الذين كان لهم شوطًا كبيرًا في حفظ التراث العربِيّ.
  2. عَمِلَ على تحجيرِ عقلِ المُتخَصِّصِ وتضييقِ أُفُقِ معرفته، وجعلِ هذا النطاق المعرفِيّ مَقصورًا في مساقِ تخصُّصهِ، وقيَّدهُ ضمن منظورٍ واحدٍ وسبيلٍ مُحدَّدة.
  3. ألغى تعدّدَ المصادرِ للمتخصِّص خارجَ تخصصِه؛ فنرى الطبيبَ لا يفهمُ إلّا بالطبّ، ونرى المحاميَ لا يعرفُ سوى (دستور) بلاده، ونرى المعلِّمَ لا يعرفُ شيئًا عن تاريخِ التربيةِ وأنظمتِها عبرَ الحضارات والأمَم لِيُطبّقها عمليًا.


ومن هذا المُنطلَق، وهذه الأسباب؛ يُرى أنَّ مثلَ هذه الكُتُب الأدبية -على ما احتوتهُ من ثقافةٍ موسوعيّةٍ جامعةٍ لأخبارِ مَن سَلَف- لا تَطعنُ في العقيدة الإسلامية ولا حتّى تُعطي حُكْمًا شرعيًّا في مسألة مُعينة؛ فهي بدورها جمعَت ما كان من أخبارِ الناس ودرجة تحضّرهم وواقع معيشتهم وأخبار دولتهم ومَعالم ثقافتهم وما جُبِلوا عليه من الخير أو الشر.

فعندما ينقل أبي الفرج عن مجون عمرو بن أبي ربيعة، ليس بالضرورةِ أن يستحسنَ فعله أو يتقمّصَ قوله، فقد نقل ما جرى "وناقل الكفر ليس بكافر". كما تقول القاعدة العَقَديّة.


ولولا هذه الكتب التي حفظت لنا هذا التراث، وجهود المُحققين الذين بذلوا طاقاتهم في إصدارهِ على طبقٍ من ذهب للباحث والمُريد؛ لما عَرَفنا تاريخ هذه الأمة ولا معالمها ولا استطعنا أن نصنعَ مستقبلًا أو أن نعيشَ واقعًا، فمن لا تاريخ له لا واقع له.

فهذا ابن خلدون -صاحب المقدمة- الذي لا يَخفى على أحدٍ طول باعهِ في التاريخِ وعلم الاجتماع والسياسةِ والاقتصاد وغيره؛ يُطلِعنا على أربعةِ كُتُبٍ للمُتأدِّب الناشِئ قد تعلّمها من شيوخه وهي-كما ذكرها-:

كتاب الكامل لمحمد بن يزيد المُبرِّد والبيان والتبيين لأبي عثمان الجاحظ وأدب الكاتب لابن قُتيبة الدّينوَريّ والنوادر لأبي علي القالي.



فنخلصُ إلى أنَّ كتبَ الأدب تكون مصدرًا ومرجعًا للباحث في الأدب وطالبه، وكتب الشريعة تنفع طالبها ومُريدها، وكتب الطب تنفع دارسها وهكذا دواليك، فلا يؤخذ من كتب الأدب الشرعُ ولا حاجةَ لأنْ تُهاجمَ بهذا التحذير والتشديد؛ فالناظر في هذه الكتب يُدرك حقيقة أصالتها ومدى رصانتها وطولِ باعها في تأديب العامّي وإرشاده إلى محامد الأخلاق ومدارس الآراء وعوالم الأمصار ولا غرو فهذا بحمد الله لهو الخير الكثير والعلم الحميد ومُراد كُل أريب ولا حولَ للناس ولا قوّة إلا بربّهم العليم.


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

فعلا " و ناقل الكفر ليس بكافر" . يجب أن يأخذ الإنسان الحقيقة من كل الأفواه ، و يغربلها حسب معيار الحق و الخير. بالتوفيف 👏

وقد قرأت تعليق تولين وردك عليها، نحن لا نلبس نظارة الأبيض والأسود لنحكم على أي شخص، لكن عندما يتعلق الأمر بأمر شرعي قد يفسد على الناس أمرهم.. مثل ما كان يفعل وسيم يوسف في استشهاداته التي لا معنى لها.. فهنا نحن بحاجة للدفاع عن تراثنا وديننا بأي طريقة ممكنة.
وهذا لا ينطبق فقط على العلم الشرعي بل على كل العلوم، الفيزياء.. الرياضيات.. الكيمياء..علم الاجتماع..الخ.
فلا أحد يستطيع أن يأتي ويعترض على قوانين نيوتن مثلاً وإن كان فيزيائياً مرموقاً حتى يأتي بدليل قطي يثبت صحة اعتراضه، وإن حصل واعترض أو كان له رأي مخالف فمن غير أدنى شكر سيقوم الفيزيائيون بمهاجمته أشد المهاجمة.. وهذا علم يصلح دنيا البشر فكيف بعلم يصلح دنيا وآخرة البشر.. كل الاحترام مجدداً.

كل الاحترام صديقي.. وجهدك في كتابة هذا المقال مشكور.
لكن عندي تعليق بسيط، بالنسبة لمن وصفتهم بطلبة العلم الشرعي خاصة من تخصص في علم الحديث فهو مرتبط كل الارتباط مع الأدب والتاريخ، أنا لا أفقه كثيراً في هذا العلم لكن بعد أن ألقيت نظرة على مجهود العلماء بعلم الحديث سعقت من المجهود الكبير المبذول والتدقيق والتمحيص وعلماء الغرب خاصة علماء التاريخ لهم استشهادات إيجابية بهذا العلم؛ فعندما يأتي طالب علم شرعي ويعترض على أحد الكتب.. لا يعترض من باب الاعتراض فقط، لا بل يمتلك من الأدلة والبراهين ما يثبت نقضه لنص معين أو حدث معين.. أما إن قصدت من لا شغل له إلا الانتقاد "يعني بالعامية الشخص الحافظ مش فاهم" فلك ذلك.

إقرأ المزيد من تدوينات محمد نور الظريف

تدوينات ذات صلة