اقرأ حتى النهاية لتكتشف معنى الوصول الحقيقي، لكي لا تناضل من أجله طويلًا ناسيًا نفسكَ في خِضمّ هذا السعي المُنهك.
قد يُهيّأ لنا أحيانًا أنَّ وصولنا إلى هدفٍ ما أو تحقيقنا لطموحٍ لطالما حلمنا به، قد يكون أقصى المُنى، وإنجازٌ لم يؤتَ مثيله على الإطلاق، عنده تنتهي الأهداف وتُغلق المواجع، وأننا بمجرّد بلوغنا هذه الغاية سنعيش على قيد الفرح عمرنا كاملًا بل عمرًا بعد عمرنا لو أمكن، والحقيقةُ الصادمة أن الفرحة التي يجترّها الإنجاز تشبه ومضة البرق، ولن تستمرَّ أكثر من ثوانٍ خاطفة يضحك لكَ فيها القدر لغمرةٍ ويعاود تكشيرهُ تاليًا، ولكنني أؤكد لمن يقرأ أنَّها وبعدَ تجرِبة، فرحة لا تستحقُّ بتاتًا عناء الطريق والجهد والكثير من الصبر والمقاساة، إنها في الحقيقة لا تستطيع تعويض جزءٍ بسيطٍ حتى من المتاعب التي أرهقت أرواحنا في الطريق .
ولا أريدُ أن يبدو كلامي كما لو أنّهُ دعوةٌ عامة للتخاذل، أو تذكرة إحباطٍ مجّانيّة، في الحقيقةِ كتبتُ لأثبتَ شيئًا آخرَ أعلمُ أنه لن يفهمه إلا من حقق حلمًا واحدًا من أحلامه على الأقل.
أنا ومنذُ أن بلغتُ ثمانيةَ عشرَ عامًا، قطعتُ عهدًا على نفسي أن أبلغ العلا مهما كان الثمن، وكان ثمّةَ مَن هم حولي مِن القدوات ما يكفي لأبقى حريصة طيلة الوقت على الاقتداء بهم، وعدم الاستسلام لكي لا يخيب ظنّهم بي أو أسقط من عينهم في أي لحظة، كنتُ طالبةً جامعيّة نشيطة، أحسبُ حساب كل شيء، وأجتهدُ بشدّة لكي أنال تقدير امتياز، كان هذا هدفي الأعظم حينها أن أحافظ على هذا التقدير إلى أن أتخرج، وبواسطته فقط سأكسِبُ احترام مَن حولي مِن المبدعين وأدعهم يلاحظونني عن كثب.
بفرق العلم والعمر الشاسع بيننا كان سهلًا بالطبع أن يبدو عليَّ الجهلُ والبكورة الثقافية، كنتُ مُحدَثة على المكتبات حتى أنني لم أكن أتجرّأ على الاطلاع المباشر من الكتب قبل تفحّص الفهرس الخاص بها كي لا أتوه داخل الكتاب وأضيّع ما جئت لأجله .
لازلت أذكرُ خطواتي الأولى وسيري الخجول في المكتبة، أقدمتُ على استكشافها وأمعنتُ النظر في الصفوف الطويلة التي تستلقي على رفوفها آلاف الكتبِ، كطفلةٍ تزور مصنع سكاكر لأوّل مرة فيما يسمح لها بتذوّق كلّ شيء دون قيود .... كان الأمرُ بهذه الدهشة، وهذا الرّعب.
حينَ أسترجعُ ذكرياتي الجامعيّة الآن، لقد كانت أربعَ سنواتٍ حافلة بالأحداث المجنونة والكارثيّة، أمور غريبة جدًّا كان يصعب تفسيرها في تلك الأثناء، ارتفاعاتٌ شاهقة كدتُ أعانق فيها السماء، وسقطاتٌ قاتلة كادت تودي بي تمامًا، سيناريو لم أكن مهما شطحتُ لأتخيّله، أحببت وكرهت، أخطأتُ وبكيتُ، تفوّقت، أبدعت في ناحيةٍ وانهزمتُ في أخرى، وانكسرتُ كم انكسرت! والغريبُ أنني تعلقت بذكرياتي جدًّا وما زال جزءٌ مني عالقًا في تلك الفترة لم أتجاوزها ...
رغم أنني حصلتُ على ما أريده في النهاية، غايتي الكبرى بل وأكثر مما تمنّيتُ، فقد حصلتُ على تقدير ممتاز، وبفارقٍ كبيرٍ أيضًا عمّا توقعت، لكنني وصلتُ حين تغيّرت الوِجهة، لا أعلم كيف سأتمكّن من تفسير هذه الجزئيّة، لكنَّ سعادتي بوصولي لم تكن كافية لتسدّ ما بذلته في هذا الطريق المُنهِك والطويل، بكائي على درجة أو نصف درجة، وسهري لختم أكثر من ١٠٠ صفحة في ليلة واحدة، تشتتي وعزمي على التركيز أيًّا كان الظرف، كلُّ هذا لأحصل في النهاية على كلمة ممتاز مضافة إلى قطعة كرتونية تحمل مجموعة أرقام لا تُعبِّر عني، ألم أفرح؟
بلى فرحت، ولكنها فرحةٌ محدودة سريعة وقصيرة جدًّا، فرحةٌ فقيرةٌ على مداواة جسدي المستهلك في الدراسة ....
وفي مشهدٍ معاكس لاقتباسي المُفضّل الذي لطالما صبّرني "قاوم حتى لو وصلت ممزقًّا، لذة الوصول سترمِّمُك." -لذّة الوصول لم ترممني، كنتُ أظن السعادة ستغمرني بعمقٍ أكبر لتطيّب جراحاتي النازفة، وكنتُ أظن أنها نهاية كل شيء، هنا ستنتهي المعاناة إلى الأبد وسيبدأ النعيم ... لأنصدم أن هناك حياةً عاديّة لم تكن في الحسبان، علي ممارستها حتى من بعد هذا الإنجاز الذي باتَ يبدو أصغر وأسخف في عيني مما كنت أراه ...
أعلم أنني لو لم أحققه لكان سيبقى غصّةً أبدية عالقة في قلبي، ولكن تحقيقه لم يكن بتلك العظمة المتوقعة، إنهُ تناقضٌ عجيبٌ جدًّا...
لمَ قد نقتل أنفسنا لنحرز شيئًا ما، وحالما يصبح في حوزتنا ينطفئ بريقه فجأةً ويخفتُ شغفه؟ لمَ لا تعود قيمته كما كانت ويتحوّل إلى شيءٍ أقل من عاديّ في حينِ أنه لو لم نمتلكه يومًا سيبقى في أعلى قائمة أحلامنا الكبرى لن يفارق أذهاننا أبدًا؟ وأيُّ الحالتين أفضل يا ترى؟ أن تمتلك هذا الحلم فيستحيلَ سرابًا بلا قيمة بين يديك، أو ألا تمتلكهُ ويبقى خياله حاضرًا في قلبك وذهنك! وأيُّ امتلاكٍ غير مجدٍ كهذا؟!
الفكرةُ ذاتها قد تتجلّى في أمور عِدّة، فبعد أن تطلب بلهفة وجبتك المفضلة من الطعامِ وتشبع، ستنظر بزهدٍ لما تبقى منها كأنك لم تكن قبل ثوانٍ فقط مستعدًّا لاحتضانه، كأن تنتصر مثلًا وتتزوج بحبِّ عمرك ثمَّ تفاجأ بحياة عادية بعدها تكون هذه المرأة المعشوقة زوجتك بشكل طبيعي دون أي عوائق، فتتغيّر مشاعر اللهفة بقلبك، كالسيارة التي لطالما حلمت بها واستثقلت الادخار لشرائها، يومًا ما ستكون سيّارتك وسوف تنظر إليها كوسيلة تقلّك من العمل وإليه وأنها أقلُّ من عاديّة، وأيضًا بعد الثورات الكبرى التي تطيح القادة الظلّامَ بدماء الأحرار، وتحمل أحلامنا معها، لتستجلب واقعًا لم يكن يستحق كلَّ ما عافرنا من أجله، أظنُّ أنَّ باب الرضا خُلق لهذا، ليسدّ شراهة أحلامنا التي لا تشبع، أحلامنا التي تعمينا عن ما بعد النهاية، ونمنّي بها أجسادنا الفانية فتُهلكنا قبل أن نشعر بالاكتفاء.
أكتبُ الآن من وسطِ دوّامة الفتور هذه، والاكتئابِ الطويل الذي مررتُ به بعد الوصول(التخرُّج)، الوصولُ ليسَ نقطةً مُحددة أو خطًّا ثابتًا لنصف ملامحهُ بسهولة، بل إنه لحظة خاطفة إلى درجة الشكّ في أنَّكَ عشتها أصلًا، لا تنتظرها على أيّة حال، واعلم أنَّكَ بعد الوصول إلى برِّ الأمان، مضطرٌّ إلى خوض طريقٍ آخر في حلقةٍ لا نهائية من الضغط للإنجاز .... فلا تبتئس إن وصلتَ ثمَّ خاب ظنّك، فإنَّكَ على متن طريقٍ آخر الآن وعليكَ العمل بجدٍّ للوصول، ولا تتعجّل إن لم تصل بعد، ولا تنظر إلى ساعتِك لم يفُتك الكثير يا عزيزي، فإنَّ المُتعة في الرحلةِ لا في الوصول.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
بارك الله بك
المتعة في الرحلة.. نعم.
أن تلمَسك الكلمات, وتطير بكَ هذا! مُلفت!
مُبدعة بكل معنى الكلمة. أحسنتِ!
كاتبتي الجملية 🖤🥺
أحبك وأحب كتاباتك بحجم السماء أختي🦋🖤