اُسطورة المَـارد السِّحري أصبحت حقيقة بطريقة أو باُخرىٰ..!

تَمرُّ بنا الأيَّـامُ مسرعةً، نُواكبُ التطوّرات التكنولوجيّة المُتلاحقة في شَتّى الزَّوايا هُنا وهُناك، حَتَّى أصبحَ هُناك ماردٌ ذكيٌّ يَصحَبُ كُل شخصٍ منّا على حِدى، ماردٌ كَصاحِب عَـلاء الدِّين، يرافقنُا بوجودِ هذه النَّقلات والتغيُّرات ويُعايَشهُ بتصالُحٍ تام! اُسطورة المَـارد السِّحري أصبحت حقيقة بطريقة أو باُخرىٰ مع اختلافٍ مَلحوظ في الأحجام والأعمار والأوصاف والخَدَمات، ولكنّهَـا لنفس الهَدف ومن أجل غايةً واحدةً تحتاج إلى قليلِ تفكّرٍ لمعرفتها.


ماردُ زمانِنا ذكيٌّ جِدًا، وخبيثٌ جدًا، يقدِّم كُل ما بوسعهِ لإرضاء -علاء الدين- وهو بصفة اُخرى -نحنُ-. يجعل منَّـا أشخاصًا مُتشبِّثين فيه، مُلازمينَ له، عابدين إيَّـاهُ في أحيانٍ كثيرة، ونَجعل منهُ عَبدًا وإلـٰهًا في آنٍ واحد، أحدهما وُجدَ لإشباع الشَّهوة والآخرُ لمُداراةِ المَشاعِر والمُتطلَّبات وتنفيذها بأسرع ما يُمكن وبأبهى صورةٍ ومشهد.


مَسحةٌ خفيفةٌ على جَبهتِهِ، يُطيعُ أمرنا بسرعةٍ أسرع بكثير من صاحب علاء الدِّين، الذي لربما استغرق وقتًا طويلًا في بناء القصر وجمع المال.


إنّ الماردَ الذكيّ هذا يتلقّى صَفَعاتِ أنامِلنا على وجهه بصدرٍ رَحبٍ، وَسيع، ومن دون كَلَلٍ أو مَلَل. ممَّـا يجعلُ من نُفوسنا البشرية راضيةً تمامَ الرضى عنه، وتُراها ساخطةً أشد السّخط إذا ما تأخّر هذا المَارد بالاستجابة أو عدم فَهم الأوامر من أول مرّة، ثُمَّ إنّهُ أصبحَ ساحةَ تفريغٍ للطَّاقات والتقلّبات، ويتحمَّل مزاج صاحبهِ أيًّـا كان، يضحك، يبكي، يصرُخ، أيًّا كان؛ فعلى الماردِ السّمعَ والطَّاعة، لأن هذا أمرٌ عليه أنْ يَمتَثلَ لَهُ في كُل مرَّة وعند كُل أمر، ثُمَّ بالمُقابل من جهتنا؛ آمينَ آمين لِكُل ما يُصوِّرهُ وينقلهُ لنا، وكُل ما يزرعهُ في دواخلنا بمجرد فتحِ قلبهِ وجوفه لمَعرفة آخر أخباره وخدماته وتطبيقاته الجديدة.

ولكنَّ الذي يُميِّز مَاردُنا هَـٰذا أنَّـهُ يمتلك خاصيَّة خارقة جدًا، بخلاف ما كان يمتلكه مَارد علاء الدِّين؛ فمصباحُ علاءِ الدّين بقيَ كما هو، لَم يَتلوَّن ويتبدّل في كُل لقاء له، إنما كانَ هو هو على كُل حال، أمام السُّلطان والوزير، والشيخ والأمير، في المحافل والأسواق والأفراح والأتراح.أمّا ماردنا هَـٰذا فإنهُ "شُبِّيك لبِّيك" في كل لقاء، وكُل تراسلٍ وتواصل، ومع كُلِّ عارِضٍ أو حدث!


ضغطَةُ زرٍّ واحدة يفتحُ لنا هذا المِصباح ألوانه، ويستقبلُنا الماردُ بكل تأهيلٍ وترحيب، ليسمعَ طلباتِنا، ويُطيع أمرنا على الفور. لكن! هل هَـٰذا كُله بالمَجَّان؟


مثلًا في (فيسبوك) مَا أقدرَ هذا المارد الذكيّ عندما يَفتح لنا المجال بالتقلُّب بين الصُّوَر والصفحات والمَجموعات والنَّدوات التي نُريدها والتي تخدم مواقِفَنا في كُل زاوية من زوايا أزرق اللونِ هذا، ويكون لنا مُعينًا على تنفيذ الخُدعَة بأكمل وجه، فترى مِنّا الشَّاعرُ، والأديبُ، والمُفتي وعالمُ الآثار وصاحبُ الإلهام، ومُغيث الملهوف، والسياسيّ المُحنَّك، والرِّياضيّ المُخلص، والمُحبُّ بالعلَن الكارِهُ في الخفاء، وحَدِّث ولا حَرَج.

"شبّيك لبيّك" بأيِّ وقتٍ وأيِّ لونٍ تُريد وحسبَ المَزاجِ الذي تمتلكهُ!


"سناب شات" مثالًا أيضًا على خوارق المارد الذكِيّ، برنامج تصوير يجعلُ من التسعينيّة مُراهقةً شابّةً في الخامسةِ عشرةَ من عُمُرها، تَخدعُ مَرأى الرَّائي، وتظهَرُ بأطيب حُلّة وأزكى منظر، ورُبما بعد قليلٍ من التطوّر برائحةِ عُطرٍ جَذّابة! فتكونُ مَلكةَ جمالٍ بأسنانٍ بيضاء لامعةٍ، وبشرةٍ مَشدودةٍ مُشرّبةٍ بالحُمرة، وَغُرَّةٍ مُتدلّيةٍ من حجابٍ يكادُ يَسقط، وعينينِ واسعتينِ يَعلوهما رِمشٌ كثيف؛ مِمّا يُكمل خُدعة البصرِ هذه، ويُلفتُ نَظَر الزاهِد واللاهِف عبرَ هذه الشَّاشة الصَّماء الصغيرة، التي صَيَّرتْ نفسهَـا عَبدٌ وآلهة -في الوقت نفسه- وجعلتْ من نفسها ساحات وَملاعب وَطاولات للتعبير عن المَشاعر والخَلَجات، واستعراضِ المَعلوماتِ والعَضلات، بحيث يعبثُ فيها مَن أراد، وَيتربّع من شاء على أيّ عرشٍ شاء، وأي نَغَمٍ حَبَّذَ وأراد، ويُراوغ فيها كَثعلبٍ مَكّارٍ خَبيث.

تجد في هذا المارد من يدّعي كُل حَسَنٍ وجميل: المثاليّة، التحضُّر، حُسن السيرةِ والسلوك، الصورة الطاهرة، العلاقة الحميمة، والحُب!


الحُب كلمةٌ يختبئُ وراءَها الكثيرُ والكثير، فكمْ من قيسٍ وليلى جمعهم هذا المَارد العظيم، وألَّفَ بين قلوبهم بالخير، وحقَّق منْ شاء فيهِ مَا شاء، وكمْ من عنترَ وعبلَ فرَّقهم وشتَّتَ شَملهَم فضاعَ ذِكرُهُم بين حسابِ فلانٍ وعلّان، ورقم هاتف هذا وذاك، وكُلٌّ يدّعي وَصلًا وَشغفًا، ولا أحد يَعلم الحقيقة. الحُب نراه بين المَرأة مَع اُختها، والشاب مع صديقه، والمعلّم مع تلميذه ولكن؛ هَل يُعامَلُ هَذا المحبوب مارِديًا حَسَنًا في الواقع، أم هل يَظهرُ هذا الحُب عن طريق المُعاشرة والتعايش؟! أترك الجواب لكم.


هل هذه التضحية من ماردِنا الذكِيّ كُلها بالمَجَّان؟ دون أي مُقابل؟ ومن غيرِ أيةِ خسائر أو تهديدات؟! أنت مخدوعٌ عزيزي، مَاردكَ الذكِيّ هَـٰذا عليهِ ضريبة، والضريبة هو استعبادك أوَّلًا ثُم تسييرُك ثانيًا وامتلاك قلبك واستغلال عقلك، وخامسًا وسادسًا وعلى هَـٰذا المِنوالِ عَدِّد. يحتَلّكَ حتى تُصبحَ مُجرّدًا تمامًا منكَ، من هُويّتكَ وفِكرك وقلبك ونفسكَ وإيمانك وإسلامكَ ومن قوميّتكَ وعربيّتكَ لغةً وأصلًا، ومن مروءَتك وأحيانًا كثيرًا أخلاقك ومبادئك. يُجرِّدُك منك تمامًا حتَّى يُهلكَ حَرْثك ونَسلك -على نطاق تفكير أوسع-. وَمع مرور السنوات والأيَّـام وبالرّغم من سرعة الوَقت إلّا أنّ ماردَنا يَزدادُ شبابًا ونضَارةً وحُسنَ مظهر، ومع كُل تحديثٍ وإصدارٍ لهُ يُقدِّم لكَ خدماتٍ أكثر ليستعبدك أكثر وأكثر.ويُشغل عقلك وتفكيرك بكلِّ تفاصيله، والعَجيب بين حال ماردِنا وصاحِبِ علاءِ الدّين أنَّ تأثيرَهُ يَمتدّ إلى ما بَعدَك أنت؛ فيَخلُقُ اللهَ الجنين في بطنِ أُمّه، ويُؤَقَّت لهُ وقتًا، ثُم بقَدرِ الله يَخرجُ إلى هَـٰذا العالم ويُولَد؛ فَيكبُر ويَنشأ ويترعرع في حضن أمّه، ومع مرور الأوقات والليالي تجدهُ يَحبو، وبعد بُرهةٍ يَقفُ ويترددُ ماشيًا، ثم يأتي الوقت؛ فتدخلُ على بيتِكَ وإذ بطفلٍ صغيرٍ يَمسكُ بماردٍ ذكيٍّ آخر ويُقلّب فيهِ وَينظر من غيرِ سابق تعليمٍ أو مُدارسة، يُقلِّبُ بين خدماته اللامعة، السارقة للعقول والقلوب، لِيكونَ بعد ذلك عارفًا بحذافيره أكثر منك أنت!


اللهُ أكبر! ما أسهلَ الحديث إليه وما أقوى مفعولَ عَمله! لهذه الدرجة؟ نعم، وأكثر أيضًا. انظُر إلى الأسواق، انظر إلى المدارس، حدّق في العلاقاتِ الاجتماعية، ألقِ ببصركَ على الشَّوارع، ألم ترَ ما أراهُ أنا؟ انظُر إلى ما حولك، كُلٌّ لهُ ماردٌ سحريٌّ خاصٌّ بهِ، شيءٌ مُقدَّس، يُعزَّزُ وُيُكرَّمُ ويُحافَظُ عليه أشدّ مُحافظة، ويُهتَمُّ بهِ كَمعشوقةٍ يَخافُ عليها حبيبها من النسمات الخفيفة، والهواء المُتلاعب بين دفَّـات غُرفتها مُشرَّعةُ الأبواب.!أصبحَ هذا المارد أبًـا وأخًـا وأُستاذًا وإلـٰهًا.قد تشعر بأني أُبالغ في كوني جعلته إلـٰهًا يُعبد ولكن هَـٰذه الحقيقة يا صديقي، لو نتمعّن أكثر سَنجدُ الأمرَ حقيقةً عارية، ولكن ألم أقلْ لك أنَّـه ذكيٌّ جدًا؟ لاحظْ! لَم يفتحْ لكَ المَجال ولو لبُرهةٍ أن تُفكِّر بكل هذه الأمور، ولن يترك.! طَمَسَ على قلوبنا وأبصارِنا وأسماعِنا وأذهاننا، كعبيدٍ لهُم فَمٌ للأكل وليس لهم لسان للكلام، ولهم أذُنانِ للسمع وليس فيها حسَّاسٌ للاستشعار، ومُخٌّ من غيرِ تَدبّرٍ وإفهام. آمينَ آمين، نسمعُ ونُطيع. فرضَ قوّته وسطوتهُ على الزوجة والابن والأختِ والحفيدِ والقريبِ والبعيد، امتلكَ الجميع، سواءٌ أكانَ هوَ أو ماردٌ آخر من نفس القبيلة.

قالَ اللَّـه -جَلَّت قدرته- :"يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ " الأعراف.


إنهُ شيطان اليكتروني! هذا واقعٌ أعيشهُ أنا وأنتَ وأخوكَ وأبوكَ وخالكَ وصديقكَ وزميلكَ في العمل وصاحِبكَ القديم وحبيبكَ الجديد.



كلنا نمتلكُ ماردًا ذكيًّا وننقلهُ معنا حيثما نُريد؛ لنُؤدّيَ لهُ الصلاةَ المطلوبة، ونُحققُ أهدافَهُ المرجوّة بأقرب حينٍ وعلى أحسن وَجه.

ما أريدهُ منكَ عزيزي القارِئ أنْ كُن حَذرًا، كُن مُتيقّظًا؛ فالمَآربُ خبيثة والخَدمَات مُغرية والتحديثات عظيمة، اجعل نفسكَ ماردًا عليهِ، سيطرْ على محتواه، اقلب الآيةَ رأسًا على عَقب،

حقِّق غايتكَ السامية منه، ولا تَجعلْ من نفسكَ طُعمًـا لجهازٍ أبكَم أصمّ يتظاهر بالمَسكَنة والذُّل.

كُن ماردًا عليه، وبلِّغ رسالتي هَـٰذه؛ كوَقفةٍ مِنْك للتأمُّل والتَّفكُّر، ودعوةٍ للوَعي والتنبُّه.


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

أهلًا بكم أ. زَكيّة 🌹

هذا ما أسميه بالأصنام الهلامية التي أنشأناها داخلنا والمارد الذكي أحد هذه الأصنام
راق لي التشبيه كثيرا
والأسلوب ممتع كذلك
بوركت 🌸

إقرأ المزيد من تدوينات محمد نور الظريف

تدوينات ذات صلة