المواصلة العامة أشبه بمدينة ملاهي مصغرة تضطر لدخولها كل يوم أكثر من مرة وتذوق معظم ألعابها إن لم تكن كلها!!

المواصلات العامة أبشع ما قد تضطر لملاقاة عذابه كل يوم خاصة إن كان ذلك أكثر من مرة في اليوم الواحد.. في المواصلات العامة تلاقي جميع فئات المجتمع بطبقاتها المختلفة المتشابهة في نشأتها الأساسية..


من الصعب جدا أن أختصر لك ما يحدث فيها في بضعة أسطر فإن ذلك سيكون اختصارا مخلا بأصل الموضوع.. لكنني سأحاول أن "أدردش" معك حول أنماط الناس فيها وأبرز الشجارات التي تندلع فيها في أقل من جزء من الثانية ويحتاج وصفها متسع من الوقت.. لكن أولا استأذنك أن تمنحني بعض الوقت للخروج من المواصلة العامة التي استقلها الآن ثم سأعود للدردشة معك.. تمنى لي الحظ لاستطيع الخروج منها بكامل هيئتي وألا أخرج منها مشرذماً وشظاياي متناثرة في كل مكان.




حمدا لله قد عدت أدراجي وسأتمكن من مواصلة هذا الحديث.. أين توقفنا!؟ ها قد تذكرت لقد كان مشهد صراعي نحو الخروج هو الأخير لذا سأكمل من حيث توقفت.. بما أنني ما زلت أملك القدرة على الكتابة ومحادثتك فمن المنطقي أن تكون توقعت مسبقا أنني خرجت من ذلك الصراع "قطعة واحدة" بدون شظايا أو أشلاء ضائعة لذا يجدر بي أن أشكر الله آناء الليل وأطراف النهار أنني لم ألقى الوجه الأبشع للمواصلات العامة حتى الآن، فما دامت الخسائر تقتصر على بعثرة هندامي وضياع أجزاء من كرامتي واحترامي للناس وبعض الكدمات البسيطة في اليدين والقدمين والرأس فهذا فضل من عند الله فأنا ما زلت حي أرزق ..




الصراعات في المواصلة العامة تختلف وتتنوع مواضيعها لربما صادفت في يوم من الأيام شجار دار بين سائقين مثلا لأن أحدهما تعدى على دور الآخر أو أشياء من هذا القبيل.. وعادة ما ينتهي ذلك الشجار بحلف أحدهما على الآخر -بالطلاق- أن يأخذ دوره ليتأكد أنه غير "زعلان وشايل منه" .



فئة سائقي المواصلات العامة تلك غريبة جدا فالمرح بالنسبة لهم هو تسابقهم على الأكثر سرعة وخفة وتمكن من "الطريق والسواقة" فكل منهم "يزنق" على الآخر ليسبقه متغاضين عن أرواح الركاب اللذين تحولوا لعجين داخل ذلك الصندوق المعدني ثقيل الوزن -نتحدث عن مواصلة عامة هنا لا دراجة هوائية لتكون رفاهيتهم هي السباقات من هذا النوع!!- لكن إن كنت تستقل مواصلة عامة فلا داع التعجب هنا فهذا ضرب من العجب ذاته!

بالعودة لفئة السائقين فإنهم لا يأبهون بحال الركاب لأنهم لا يرونهم بشرا من الأساس بل يرونهم "جنيهات" وسعر الأجرة سواء كانوا داخلها أو يريدون الخروج منها أو الانتحار بالبطيء وانتظار ركوبها..




لا يقتصر عجب المواصلات العامة على السائقين فقط بل إن الركاب أيضا يحملون في جعابهم عجبا آخر، فقد تصادف مثلا صديقان أو صديقتان في تلك المواصلة العامة وبالطبع سيحلف كل منهما على الآخر بأن يدفع له أجرة المواصلة فيحلف الرجل بالطلاق والمرأة "بالزعل وأنها مش هتدخلها بيت تاني" والصيغة والأسلوب واحد في كلا النوعين فيكون مزيج بين الصراخ في أوجه بعضهما البعض وتدافع الأيادي المحملة بالأجرة لمن يوصلها للأمام لقائد هذه المركبة الزاحفة -السواق- ولا أعرف كيف ينتهي ذلك الحوار الذي يبدوا في هيئة شجار -أن كان يمكن أن أطلق عليه كلمة حوار- لكنني أعرف أنه من النوع الودي الذي يحسب "كجميلة" يجب أن ترد في لحظة مناسبة.




وهناك مصنف آخر من الركاب اللذين لم يروا بعض منذ مدة وبدأوا في تبادل الأخبار وكل منهم يعلم الآخر بالتطورات التي حصل عليها "والسهاري الطازة" ليبدوأ في حوار غير منتهي لا ينقطع إلا بوصول أحد المتحاورين لوجهته ولا ينقطع صوته إلا عندما تبتعد عنه السيارة مسافة قرابة ثلاثة أو أربعة أمتار مثلا! – وغالبا ما يكون هذا المصنف قد مر بمرحلة التعازم بدفع الأجرة من قبل وقد أنهى وبدأت الأحاديث اللانهائية-.




وأناس يتحدثون عن الأوضاع الاقتصادية والسياسية ويتناجون فيما بينهم بأن "حال البلد مش عاجبني والبلد رايحة بينا على فين؟؟!" حتى وإن قلت تلك الفئة من التواجد على ساحة المواصلات العامة وغالبا ما يكون عزاء ذلك للخوف من العيون والعصافير.. إلا أنها -الأحاديث- تظل موجودة حتى لو كانت تظهر على استحياء.




وفي أحد الزوايا ستجد بعضا من الناس لا يتشاجرون ولا يتنافسون ولا يتحاورون مع أحد وكل منهم غارق في صمت فقط لا غير.. أولئك يحاولون العودة أدرجهم والنوم والراحة لتحمل كل ذلك العجب بداخل المواصلات العامة في اليوم التالي لأن ذلك أصبح أسلوب حياتهم.




قد أرهقني السرد والتفكير في تلك المشاهد وأكاد أن أجزم أنك قد أرهقت أيضا أثناء قراءتك وتخيلك لهذه المشاهد التي لا بد أنك صادفتها مرات عدة وما زلت ستصادفها أكثر ما دمت تستقل مواصلة عامة، لذا فإن خروجك من أي مواصلة عامة "قطة واحد" ببعض الكدمات وألم في الرأس جراء الإزعاج وبعض الخسائر المادية مثل سرقات الأموال والمعنوية مثل بعثرة الهيئة والكرامة إلى حد ما فيجب عليك أن تحمد الله على ذلك.. مثلما أفعل أنا أيضا.




رغم أن هناك الكثير من المشاهد التي مرت بي أثناء استقلالي لمواصلة عامة لم أكتب عنها إلا أن المقال قد طال ويصعب إيجازه، فكل مشهد ذكر فيه يحدث مرارا وتكرارا وأهل لأن يكون محور كتاب بأكمله، لا مجرد فقرة في مقال..


مشكلات المواصلات العامة لن تنتهي أبدا ما دامت تلك المركبات موجوده ويستقلها الركاب اللذين لن يستطيعوا الفرار منها إلا بامتلاك سيارة شخصية، لتبدأ عندها مشاهد من عجب القيادة في شوارع المدينة المكتظة بالناس عن بكرة أبيها والمواصلات العامة التي يخرج سائقها مع صديقه ويحاول التفوق عليه والمرور بجانبه بسرعة أكبر.


أو لا تستطيع شراء تلك المركبة فتضطر لتحمل شقاء المواصلات العامة بمنطق "مجبر أخاك لا بطل" وتدعوا الله أن تخرج منها دائما سالما معافى بخسائر طفيفة وأن يمنحك الجلد والصبر ورأس جديدة لتتحمل كل هذه الكمية من الشجارات والحوارات و"السهاري".





ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات داليا أحمد

تدوينات ذات صلة