من فينا لا يبحث دائما وأبدا عن المزيد من القهوة !؟

في الواقع لا أعرف مدى حقيقة هذا الأمر لكنه يظهر أمامي كثيرا بطريقة مبهرة لا يمكن غض الطرف عنها، ما أقصده هو مدى إرتباط القهوة بالإلهام.. بإلهام الكتابة!

لا أعرف حقا السبب وراء مئات الأفكار التي تتصارع فيما بينها على حافة قلمي وبين لفائف دماغي بمجرد أن تخرج رائحة القهوة فتسافر من مكانها في البرطمان حتى تصل إلى أنفي، بمجرد وصولها تتلاحق الأفكار التي تستحق أن تكتب وتصاغ لتعلن وتنشر على الملأ.

والغريب أيضا أن هذا النوع السحري من الإلهام لا يحدث إلا مع القهوة المطحونة طحنا دقيقا ومطبوخة على نار هادئة جدا وأضيف إليها البعض من الحبهان والكثير من السحر والروعة..

البعض يسميها قهوة تركية وبعض المصريين المتعصبين يقولون عنها قهوة مصرية أو قهوة بلدي أو يكتفون بقول قهوة! دعنا نحن من صراع الثقافات هذا ومن سبق الآخر باختراعها ومن قام بتقليدها المهم أن نستمتع بها وأنها لذيذة!

للقهوة بشكل عام شخصية قوية تمكنها من فرض نفسا حيثما ذهبت..ولكل نوع من أنواعها شخصيته المستقلة أيضا ..

كواحد مثلي يحب القهوة وأذوب عشقا فيها خاصة القهوة التركية ورغوتها التي نفضل أن نطلق عليها لفظة "وش" كمصريين وعن نفسي أرى أن لفظة "وش" معبرة وشاعرية أكثر من لفظة "رغوة" ولا تسألني عن السبب ربما هو وفاء خفي بداخلي لثقافتنا المصرية... لا أعلم.. ما علينا لنعد لموضوعنا الآن

هذا النوع من القهوة بالذات بما لها من "ووش" ذو ملمس رملي خفيف وقور وما أسفله من خلاصة حبات البن الناضجة على شعلة بالغة الصغر من النار وما لتلك الخلاصة من مرارة محببة للنفس تشعرني دوما بالعودة للوطن ولمنطقة الراحة والأمان التي هي بوابتها الأولى..

هذه القهوة تجعلك ترغب في سماع جارة القمر السيدة "نهاد الحداد" وما لها من فيروزيات آسرة برنات صوتها الحنون الراقي ..

"أهواك بلا أمل.. وعيونك تبسم لي.." "في السهرة أنتظر ويطول بي السهر.. فيسائلني القمر: ياحلوة ما الخبر ؟ فأجيبه والقلب قد تيمه الحب.. يابدر أنا السبب.. أحببت بلا أمل..!"

وبالطبع حينما يأتي ذكر القهوة وفيروز لا بد أن يخطر ببالك أححد فتتي اليوم إما في مقتبله ومازالت شمسه كسول فلم تذب كل برودة الليل فبقيت منها آثار تلقي عليك التحية بخفة وسلاسة.. أو في نهاية يوم عمل طويل شاق قررت أخيرا إنهاءه بفنجان قهوة وخلوة صغيرة تغني فيها إلى جواك فيروز والقمرجار لكما في الليلة التي ينير فيها وسط سماء غفت شمسها لبضع ساعات فإتخذها البدر عرشا له ونجومه..

والأغرب والأجمل بالنسبة لهذا النوع من القهوة هو ما بدأت حديثنا به .. ارتباطها بالأدب والكلمات وامتزاج سحرهما سويا.. سواء كان بمنحك هبة كفكرة لتكتب عنها بعد انقطاع طويل مرير كما هو الحال معي.. أو بمنحك هبة أخرى هي التركيز والهدوء لتتمكن من الذوبان وسط سطور مكتوب لكاتبكك المفضل فتغيب عن هذه الدنيا لتشرق في دنياه لساعات من الاستمتاع والسعادة.

لا تظن أن المقال إنتهى عند هذا الحد. فمادام هناك مزيد من القهوة إذا هناك هناك مزيد من الإلهام بالمقابل..

ما مضى من حديثنا كان عن شخصية نوع واحد من القهوة.. وهناك أنواع أخرى مختلفة الشخصية تماما.. وأنا كعاشق للقهوة أحدثك عن انطباعي عن كل منهم بالطبع في حدود تجربتي فقط فليت لي فرصة بتجربة جل أنواع القهوة في العالم..

علك علمت من حديثي السابق أن أكثر طريقة أفضل بها القهوة هي التركية لما لها من توافق كبير مع كوني هاو للقراءة والكتابة على حد سواء.. وهي تمكني من القيام بكليهما على أكمل وجه، لكن ما يأتي- بالنسبة لذوقي الشخصي طبعا- في المرتبة الثانية من حيث اللذة وقوة الشخصية والمتعة تكون القهوة المضغوطة أو ما نسمية عاميا حسب تسميتها في بلاد نشأتها "اسبريسو"

آه منها ومن روعة منظرها وهي تخرج بعدما تمر المياه بين حباتها المطحونة بدرجة أقل من طحنة البن الخاص بالقهوة التركية وقد تم ضغطها جيدا لتمر المياه بالكاد من بينها لتستطيع استخلاص أكبر قدر ممكن منها في شكل سائل ثخين القوام نسبيا مقارنة بغيره من أنواع القوة ويكون لها لون آسر أسود داكن كالليل لامع كالقمر.. وما يتمم بهائها هي رغوتها - وهنا علي أن أقول لفظة رغوة لأنها أنسب من لفطة "وش" ولا أعرف السبب وراء ذلك أيضا!-

"الاسبريسو" أيضا لها شخصية منفردة تجعل نفسك تميل لسماع موسيقى الجاز وحبذا أغنيات "لويس أرمسترونج" وموسيقى أغنياته المميزة المهبرة مع "حشرجة" نبرة صوته التي لا أظن أن من الممكن أن تتكرر خاصة أغنبيته "What A Wonderful World"

"I see skies of blue And clouds of white The bright blessed day The dark sacred night And I think to myself What a wonderful world" Louis Armstrong- What A Wonderful World



تجعلك أيضا تميل للانعزال وقضاء الوقت في تأمل العالم من حولك ومتابعة قصص تدور حولك ترى منها مشاهد قليلة في وجوه المارة في الشارع.. هذا النوع من القهوة يجعلك تشعر وكأنك خفي أو ظل يمكنك مشاهدة من حولك ومتابعة هذه القصص دون أن تلاحظ أو تبدو وكأنك "تحملق" في الناس من حولك بشكل مزعج لهم..

الممتع في "الاسبريسو" أنها تعتبر بوابة عالم القهوة بأنواعها الغربية فإن تمكن منك عشقها وأسرتك مرارتها ولونها ورائحتها ستعبر بك لأنواع أخرى لها شخصيات أخر من القهوة ، كالقوة الأمريكية مثلا التي يزيد فيها معدل المياه عنها في "الاسبريسو" الأصلية فتكون لها شخصية "برجماتية" كدولة منشئها ولها طابع عملي أكثر من أي شيء آخر فتجعلك تميل نحو العمل والانجاز أكثر من الهدوء والموسيقى كاسبقتيها.. أو كالقهوة بالحليب - اللاتيه- وما يضاف إليها من نكهات أخرى مثل الكراميل أو الشوكولاته أو غيرهم فتجعلك بدورها تميل لحب الفن ورؤياه وقراءة الروايات الرومانسية أكثر والتي تركز على ما يدور بداخل الأنساب من مشاعر مختلطة ومتضاربة كما في روايات "كولين هووفر" التي لطالما كان لها طعم القهوة بالكراميل.

كل نوع من أنواع القهة يجعلك تكتشف جزءً جديدا في نفسك قد يكون أكثر حزنا أو أكثر حكمة.. ربما أنضج أو أقل خبرة في الحياة.. تحيلك مرح ضحوك تحب الفكاهة وترسم البسمة على وجه من يراك.. وربما تجعل منك شخصا أكثر إنجازا وفعالية .. في كل صباح تكتشف خبايا نفسك مع رشفة القهوة لتصحو.. في كل يوم تجد الجديد ينتظرك بعدما تفرغ من الاستمتاع بها.. لكنك لن تقدر على تحمل لوعتها أكثر من ثلاث ساعات لتطلب المزيد من القهوة !



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

دخولى هنا ممكن كان بالصدفة ولكن هى اجمل صدفة لأننى أعشق القهوة ورائحة القهوة وكل من يحب القهوة وكل موضوع يخص القهوة واحب من يحب القهوة أنا المدمن الذي لا يريد ان يتعافى من هذا الإدمان الجميل ♥️ اسف للإطالة ولكن شكرا اختى الغالية لمواضيع وكتاباتك الرائعة ♥️

إقرأ المزيد من تدوينات داليا أحمد

تدوينات ذات صلة