بوجنتيه الحمراوتين وحجمه الصغير وحقيبة ظهره التي تكبره حجما، استحوذ على اهتمامي لمتابعته حتى ذاب في الطريق البعيد حيث لا تستطيع أعيني ملاحقته أكثر..

كنت أفكر فيما سأكتب عنه هذا الأسبوع لكني كنت أشعر أن رأسي فارغا فراغ مدرسة بعد انتهاء اليوم الدراسي والدوام فيها.. لا أجد فكرة واحدة التحدث عنها حتى قلمي ما عاد ينظر لي وكأنه قد اتخذ موقفا ضدي لتركي له وحيدا بدون اهتمام في الأيام الفائتة.. لذا رغم في أن يعاقبني بسكوته..


حتى رأيته.. طفل في الثامنة أو التاسعة من عمره، كان وحده في الطريق الخالي من المارة عدا بضع أطفال صغار يقاربونه عمرا أو أصغر من أطفال الحي استغلوا كون الشارع فارغ ليلعبوا الكرة دون أن تقاطع أي مركبة لعبتهم واستمتاعهم..


إن عدنا لبطل قصتنا اليوم فإنه في وصفه لا يملك شيء يميزه عن غيره من أقرانه سوى غرابة وجوده وجده في طريق خال كهذا وهو يحمل على ظهره حقيبة أكبر منه.. كان متوسط الطول مقارنة بعمره.. ذو شعر أسود وعينان سوداوتين كذلك إن لم أكن مخطئا.. ذو وجنتين حمراوتين ممتلئتين تحب النظر إليه وترتاح بمجرد رؤيته..

لكنه كان يبدو عليه التوتر كمن ضل الطريق.. كان متخذا لنفسه درعا من ذراعيه بعدما عقد سبابتيه وراح يفركهما برامج ثابت السرعة تقريبا يسهل عليك أن تستنتج من خلاله أنه متوتر ويفكر ويسير في هذا الطريق غير متأكد من صحة وجهته..


عندما كنت أقف في شرفة منزلي أتلقى نسمات ليالي سبتمبر الباردة على وجنتي وألحان سمفونيات موزارت ترن في مسامعي وعيناي مركزتان على سطور رواية "ظل الريح" "لكارلوس زافون" وأنا أتابع فصول حكاية بطلها "دانيال سيمبيري" وأقتنص من فترة لأخرى نظرة خارج إطار الرواية فأنظر نحو الأسفل القريب نحو الطريق الذي أطل عند بدايته الصغير ذو الوجه الحمراء الممتلئة.. في البداية لم أعرف وجوده اهتماما حتى لاحظت عقده لسبابتيه فتبادر على ذهني عندها ظن بأنه قد ضل سبيله.. وبالفعل كان ظني في محله فما هي إلا بضع لحظات حتى وصل الصغير إلى نهاية الشارع الذي دلف منه ووقف في تقاطعه مع بداية شارع جديد.. تماما وسط الأطفال لاعبي الكرة -أطفال الحي- في ذلك الحين وقف الصغير في مكانه لجزء من الثانية وهو ينظر حوله ويفرك سبابتيه المعقودتين ببعضهما البعض ثم لف ودار وعكس اتجاهه وعاد من نفس الطريق الذي جاء منه.. طوال اللحظات التي قطع فيها الشارع عائدا من حيث أتى كان ينظر حوله ويتلفت يمين يسار كأنه يبحث عن طريقه الذي أوضاعه..


ظللت أتابعه في صمت حتى توارى عن الأنظار وفي عقلي الكثير من الأشياء والأسئلة المتداخلة وكان على رأسها من هذا الصغير؟ وما الذي يفعله بمفرده في طريق خال من المارة؟ وما هذه الحقيبة الكبيرة التي تحملها كتفاه الصغيرتان؟.. والأهم من ذلك كله هل تمكن من العثور على وجهته الصحيحة وعار لحضن أمه الدافئ أم لا..؟

للأسف لا أملك أي إجابة لهم.. ولا أظن أنني سأراه مجددا لأطرح عليه تلك الأسئلة.. بل إنني أكاد أن أجزم أنه حتى وإن قرأ ذلك الصغير ذو الوطنية الحمراء سيقرأ هذه السطور وهذه الحكاية لما عرف أنها كتبت عنه شخصيا..


برغم أننا لم نتلاقى عينا لعين ولم نتكلم كلمة واحدة حتى، إلا أنني مدين بشكر له فقد منحني أولا: فرصة لتجربة أعيشها لأول مرة؛ أن أراقب شخصا صغيرا في صمت دون أن يفر مني خجلا.. وثانيا: أنه مكنني من مراضاة قلمي العنيد والظفر منه بهذه القصة بعد سكوت مطبق دام لأيام.. أشكرك أيها الملاك الصغير وأدعو الله أن تكون قد وجدت طريقك..


والآن ما عاد بيدي أن أفعل إلا أن أستأنف قراءتي لسطور رواية "زافون" والغرق في تفاصيلها، ثم البحث عن فكرة جديدة لمكتوب جديد.

undefined
undefined
undefined



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات داليا أحمد

تدوينات ذات صلة