يأسرنا الحنين دائمًا لمكان ألفناه وعرفنا ، لمكان يبقى الملاذ لآمالنا وخيباتنا وفرحنا، القرية البيت الأول الذي خط حروفنا بين ربيعه وجباله.

منذ كنا صغارًا كانت القرية ملاذنا الوحيد ، لا نعرف مكانًا أجمل منه أو فسحة نجرب فيها كل ما يحلو لنا من ألعاب خطرة وأخرى نرسمها على الأرض أو نصنعها من الحجارة . كانت القرية المسرح الوحيد الذي نظهر فيه فنون متعددة تعلمناها دون مراكز تدريب أو مسارح ربما سمعناها عبر التلفاز، بطبيعة الحال لا نمتلك سبل الرفاهية هذه .

اقترنت القرية بأرواحنا وصار من الصعب ربما أن نألف مكانًا آخر مهما صوروا لنا رفاهية الحياة بكثير من متطلباتها وسهولة الوصول للخدمات في أي وقت ومهما ابتعدنا عنها في سبيل البحث عن العلم والوظيفة التي تأطرت بسكان المدن أو ممن يضطرون لترك بيوتهم البعيدة والاستقرار في المدينة لأن أرباب العمل قد يرفضون توظيف من يسكن بعيدًا عن مكان العمل . ولا أرى سببًا مُقنعًا في ذلك سوى التندر من الأصل وتعقيد التحديات على سكان القرى.


لم نملك صورة مشوهة للقرية في عقولنا بالرغم من ذلك بل على العكس زاد ارتباطنا بالمكان الذي تعمه الألفة وتعرف تفاصيله كأنك من خط الحارات والطرق فيه.

عندما يسألك أحدهم في طريقك نحو المدينة واضطرارك للتنقل بين وسيلة وأخرى "من وين أنت الله محييك" يندفع فيك الفخر لتجاوب سريعًا أنا من القرية الفلانية وتعطيه تفاصيل الطريق واحداثياته كاملة وتلحقها بدعوة "تفضل زورنا" ليشعر أنك قد ألفته .

عندما يسألك أحدهم في طريقك نحو المدينة واضطرارك للتنقل بين وسيلة وأخرى "من وين أنت الله محييك" يندفع فيك الفخر لتجاوب سريعًا أنا من القرية الفلانية وتعطيه تفاصيل الطريق واحداثياته كاملة وتلحقها بدعوة "تفضل زورنا" ليشعر أنك قد ألفته .


بعيدًا عن هذا الحال ، لا تزال القرية تنشر في أهلها حب جلسة العصر، على اختلاف الفصول هناك ميزة خاصة لوقت العصر في القرية . حوض النعنع المتواجد بسكون بين ماسورة المياه وقاع الشجرة يبعث في نفسك الاستعداد لجلسة هادئة في ركنٍ مُجهز دائمًا، تحتوي على الكثير من الأحاديث التي ربما "تلف على بيوت القرية بيتًأ بيت" .


لا تمتلك القرية وقتًا واحدًا مميزًا، فالصباح فيها له رونق ساحر، مزيج من الدفء والطمأنينة، هدوء الصباح يبدده نغمة حنونة من "محماس" القهوة القديم التي ما زالت أمي تحتفظ به منذ عقود تمزج فيه القهوة مع كثير من الهيل بالطريقة التي تُحب . في نفس الوقت هناك سيارة صباحية اعتادت زيارة مُلّاك الأغنام والمواشي لتحصل على المونة الصباحية المميزة من القرية ذات السمعة المحمودة في سوق مشتقات الحليب .

والمشهد الذي أكرره دائمًا صوت الباص الوحيد وهو يتجول بين شوارع القرية باحثًا عن كل طالب وعامل لينقله خارج القرية وكي لا تفوته هذه "النقلة" ويُسجل غياب بسبب هذا التاخير .


بهذا امتازت القرية وكم أصبحنا مع تغييرات الحياة الطارئة والتي فرضت علينا أنماطًا جديدة نحتاج لجلسة هادئة بعيدة عن الضوضاء والازدحامات الملوثة كي ننعم بصفاء نرتب فيه أولويات حياتنا وتفاصيلها ، كم لجأنا في الأوقات التي ضاقت علينا مباني المدينة لفسحة صغيرة من القرية كي نحمي أنفسنا من كل طارئ غريب ، كيف تحولت القرية إلى مُتنفس يتفنن في الاحتواء والدعم .


يقول الدكتور محمد عادل الهاشمي عن عالم الطفولة في أحضان القُرى: "وهو عالَمٌ رحيبٌ تكسوهُ الأحلامُ والمشاعرُ البِكر.... والحنينُ إلى الطفولَة مَعْلَمٌ إنساني ينبضُ بأُنسِ الذكرى وعُذوبَة الوفاء... وأبناءُ القرية بخاصة يؤرقُهم هذا الحنين، ذلك أن ما يجدونه مِن مُفَارقات بين حياة القرية والمدينة، يجعل نداء الفطرة في نفوسِهم أعلى صوتاً، وأكثرَ شداً إلى أحضانِ الطبيعة، وأُنسِها، وهدوئها، وأمْنِها، وبساطتِها، وطُهْرِها" .


قد تعود الحياة وصخبها إلى بعض القرى التي هجرها أهلها بحجة التمدن والبحث عن مستوى حياة أفضل، قد تعود بكثير من جلسات الصيف التي تتمركز في الساحة الأمامية لمنازل القرى بوجود نسمة صيفية تصاحبها رائحة الريحان والمليسة الفواحة ، ستعود بكثير من الفرح بأبطاله من الأطفال اللذين ينتظرون الرابعة عصرًا للانتشار دون قيود وبعنفوان تنهيه الأمهات بنداء "أذن المغرب يلا فوتوا" .



قرية وبلد

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات قرية وبلد

تدوينات ذات صلة