دفتري الصغير ومكاني المفضل في المقهى والكثير من الحكايات والمشاعر التي تنتظر كتابتها.
أرتديت معطفي الثقيل وتوجهتُ إلى مكاني المفضل، المقهى الذي يقبع أعلى تلةٍ تطل على المدينة.
بمجردِ أن وطأت قدماي عتبة المقهى، غمرني دفء المكان كحضنٍ هادئ.. توجهت نحو طاولتي المعتادة، تلك القريبة من النافذة الكبيرة التي تتيح لي رؤية العالم الخارجي، وضعتُ معطفي بجانبي وأخرجت دفتري الصغير الذي أصبح رفيقي في كل تأمل.
الرياحُ عاصفةٌ خارجًا، أُشاهد ميلان أغصان الأشجار، أُناسٌ يسيرون عكس اتجاه الرياح بصعوبة، أمٌ تمسك يد ابنها بإحكام وكأنها تتحدى الرياح محاولةً عبور الإشارة المرورية، جميع أنواع المركبات تتجه بسرعة للبيت وكأنهم مخلوقات صغيرة تبحث عن مأوى بعد أن انهكها بردُ الشتاء.
قُدِّم إلي كوب قهوتي الدافئ برائحةٍ عبقةٍ تُحيي الروح، ما إن ارتشفتُ قليلاً منها حتى تدفقَ سيلٌ هائل من الذكريات وكأنها آلة زمن تنقلني إلى أبعاد أُخرى،
أعودُ بذاكرتي لأول مرة حينما قدمتُ لهذه المدينة، شعورٌ بالضياعِ والوحده بعيدًا عن كل ما اعتدتُ عليه، هنا حيث أخذتني قدماي لازور هذا المقهى صدفة، كان كل ما أردت هو الإبتعاد عن ضوضاء المدينة واستجماع شتات أفكاري... شربت أول كوبٍ لي هنا، كان طعمه مرًّا كمرارة الغربة التي أثقلت صدري، كُنت مضطربة لا أعلم شيئا عن المستقبل، عن أي وجهة ستأخذني الأيام، كان كوبًا محمّلًا بالتساؤلات والخوف مما هو آت.
عجيب كيف للزمن أن يمحو آثار ذكريات قاسية ويبدلها بأخرى مليئة بالامتنان، بفضل تلك الأوقات الصعبة، أجد نفسي أقوى، وأكثر حبًا لهذه المدينة...التي عشت بها كل حالاتي، إنها لنعمة عظيمة أن يجد الإنسان وطن يحتضنه ويحميه.
بلا وعي، دونت كلمات الأغنية التي تتردد أصداؤها في أرجاء المقهى، وكأن قلمي ينطلق وحده:
فزعانة يا قلبي، إكبر بها الغربة
ما تعرفني بلادي، خذني، خذني، خدني على بلادي
نسم علينا الهوى من مفرق الوادي
يا هوى، دخل الهوى خدني على بلادي
اتسأل، كيف السبيل لعودة كل من فقدوا أوطانهم إليها، كيف سيجدون وطنهم بعد أن تمزقت اشلاؤه، كيف سيتعرفون عليه وقد أصبح منهك ينزف الدمع الحزين.. لكنني أعرف، أنهم وإن فارقوه مضطرين، إلا انه ما زال يجري في عروقهم، يضخُ محبته مع كل دقة قلب تنبض فيهم، هو جزءٌ من أرواحِهم، ذكرى عزيزة تنبض في وجدانهم، كذكرى حبيب حميم لا يفارق عقولهم أبدًا.
أعدت نظري نحو النافذة الكبيرة بعد أن شعرت بدمع سخين يتسلل من عينيّ، أتأملُ قطرات المطر التي بدأت تهطل وتنزلق ببطء على زجاج النافذة، وكأنها تواسيني وتخبرني بأنه لا بأس أن نبكي معًا. تتبعتها بطرف يدي، راسمةً خطًا وهميًا يسقط مع كل قطرة تختفي أمامي.
ازدادت شدة الأمطار وهي تضرب النافذة بقوة.. تحاول الدخول عنوة لتشاركني هذه الحالة، لتطبع على دفتري الصغير دموعها، الذي سبق أن بَلَّلَته دموع الحنين والحزن. عندها أدركتً أن الدموع، كالمطر، تهطل لتطهر شيئًا في أرواحنا؛ هي نعمة، فمثلما تزهر الأرض وتثمر بفضل المطر، تتجدد أرواحنا بالبكاء الذي يحيي بداخلنا مشاعر وأجزاء كنا نظن أنها اختفت، لكنها ما زالت هناك، تظهر عندما نحتاجها، لتنمو وتشفي كل جرح، وتمنحنا عناقًا دافئًا مليئًا بالقبول والتسليم لكل ما تعجز عقولنا عن فهمه لله تعالى.
أقلبُ هذه الصفحة، وقد سال حبرها وابتلت أوراقها، لأفتح ورقة جديدة بيضاء، تنتظر كتابة تأمل جديد، أو ربما أغنية تعيد للنفس شعورها، وتأخذني معها إلى عالم الأفكار الذي أ دخله من باب هذا المقهى.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات