الكتابة فتاة فاتنة لا يُفتن بها سوى الكاتب , ولكن المفتون يظل سكير فتنته حتى يفيق , أو يموت , والكاتب سكيراً للأبد


*****************************************************

تخبرني ضروريات الحياة أنه على اعتزال الكتابة

وأما انا فأقول : كيف يعتزل الجسد عن الروح


اراها امامي ، فاتنة في قوامها ، فتية كالمحاربين ، ندية كالبلسم ، بها جميع الاشياء التي طالما تمنيتها ، تلك الخصال التي جعلتني اذوب في محيط عوالمها ولا اخرج ابدا ، لا اريد النفور بل اريد مزيد من الغوص ، مزيد من التروي .


انظر نحو عيناها ، فأرى لوحات الحياة تتمثل في موجة زرقاء ، اهيم بها ، وبتفاصيلها ، اركض نحوها متعطشا للمزيد ، راغبا بإجماد ثورة الحب في قلبي ، اترنح بين جفنيها رائيا الدنيا بعين جديدة ، غير تلك العين التي اعتدت عليها في المرآة ، وغير تلك العدسات الطبية التي تجعلني ارى الوجوه اكثر حيوية ، انها العين الداخلية ، تلك العين التي تبصر وتتبصر ، التي تتيه وتتعثر ، التي تحب ولا تكره ، وتهيم ولا تذهب ، وتخطف بفؤادي بعيدا نحو عالم لا اعرفه ، عالم زاده الكلمات وشرابه الروح ، عالم يفتتني ، يُشعرني بموجات الإدمان الشديد ، لا فقط اعتاد عليه ، بل استنشقه ، اجوب في ركام نفسي باحثا عنه ، شاعرا أن يومي لا يكتمل بدونه ، اعتدت ذلك الهيام الشديد حتى صرت بحاجة إليه ، كحاجة الإنسان لمن يطمئنه ، ذلك المخدر هو الكلمات ، وتلك الشيطانة هي الكتابة .


شيطانة احببتها ، عشقتها بكل خلية تنبت في قلبي ، بكل رقعة هواء تسهب في جسدي ، هامني ذلك الشيء الذي يعلو مراتب الحب ، ويسير دون التقديس ، ذلك المزيج العجيب الذي لا يجعلني اعيش بدونه ، وكذلك لا اعبده ، بل اشرد جائعا لتفاصيله ، هناك لحظات تذهب ولا تأتي بعد ، لأنه لن يتسنى لها أن تكون جميلة مرتين ، انها وليدة ذلك الوقت وليس وقت آخر ، فلنحيا الحين غير سائلين متى تتكرر . كذلك كانت الكتابة ، عجبا لتلك الفتاة اللعوب التي لا تقبل أن تخطف الأنظار مرتين ، يمنعها من ذلك غرور الأنثى الفاتنة ، تعلم قوامها جيدا ، وتعرف أن قلوب العشاق لا تتحمل نظرتين ، كذلك كانت الكتابة ، جميع لحظاتنا واحدة وفريدة ، اقرأ ما اكتبه فأتذكر كل شيء ، اتذكر تأوهي وتأملي ، صمتي وحزني ، اتقاد مشاعري وجفاء تعبيري ، ولكن العجز لن يحول بيني وبين المجاهدة إليها ، اقبض على قلمي بيدين مرتجفتين ، واثقة من عدم قدرتها على البوح ، واصابح واثقة ، تشتاق للكلمات ، لن تسعفني كلماتي الركيكة ولغتي الضحلة في اجلاء حبي لهذه الفتاة ، فظللت بواحا مكتوما ، كطفل ملعثم اللسان يخشى عقوبة ابيه متأرجا بين فضيلة الحق وألم العقاب ، اكتب وكلماتي لا تلهب عواطفها ، فلماذا ترق جوانبها نحو كلماتي وقد طُربت بكلمات محفوظ و وعبقرية تولستوي وجنون دوستيفيسكي ، ورقت اهدابها لحديث جبران وعشق كافكا ورسائل دي بوفوار ، كيف تسمعني ومعها حديث غسان إلي غادة ، وقيس إلي ليلى ، والخنساء نحو صخر .


إنني لست جميلا بالنسبة إليها ، لست ذلك الشاب الوسيم مفتول الكلمات قوى التعبير غزير الفكر ، انما انا شاب بسيط قد هوت على قلبه قنابل الحب فصار لا يأنس بليل ولا يعرف نهارا ، لا يجد مأوى ، ولا يعرف قلبه مثوى ، بل ظل معذبا ، راجيا أن تتحقق امانيه الطفولية وأحلامه البائدة ، أن تشفق على عذابه تلك الملكة الحانية وتمنحه جاذبيتها ....كي لا يبتعد ، كي لا يرحل .


يقولون عليك أن ترحل عن الكتابة ، وكيف يأتي نهاري دون النظر إليها ، وكيف يبدون الحسناوات في عيني إن لم تكن ارقهم واحسنهم ، اقول لكِ يا ملكة عالمي إنني لا احيا إلا بأحضانك ، ولا اتنفس إلا نسيم روحك ، إنك لا تحتاجين لحبي ، ولكني احتاج إليك ، انا انتِ ، ودونك لا شيء ، اخلع رداء كبريائي واعترف أنني دونك لا شيء ، لا شيء إن صرتِ غائبة عن مرمى عيناي ومجلس النواب قلبي ، لا شيء يجعل للحياة مذاقا سائغا إلا أنت ، لا شيء استطيع الغوص في احضانه إلا جسدك ، يدميني عجزي عن تحمل فتنتك المثيرة ، ولكن ذلك يبعث روح التحدي بالنسبة لي ، يدفعني نحو الخوض والمغامرة ، وكيف لا أخوض المعارك لأجلك وانتِ الغالية ، كيف يرضى المرء بالغوص في الطين وأمامه لجة البحر ، لا اريد عشقا ، اريد فقط نظرة ، اريد تأملا ينسيني تلك الحياة الكئيبة ، يُقلعني من تلك الواقعية الباهتة والإعتيادية الكريهة ، ويسحب روحي نحوك ، نحو الفناء والخلود ، حيث يفنى الجسد وتبقى الروح زاخرة بالكلمات ، باقية بعبارات الحب .


لا استطيع ان ابتعد ، فالبعد يعني الموت ، والإقتراب محفوف بالمخاطر ، ولكن ، كل عسر نحو الكتابة يهون ، فكل ما دون الكتابة ، دون .

زياد معوض

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

تدوينات من تصنيف محتوى أدبي

تدوينات ذات صلة