أتخيل أنه خلال رحلة التشافي الطويلة من جراح الطفولة، وما لحقها من علاقات مهتزة، تمنيت بشدة لو تم إخباري أنني لن أجد الشفاء خارجًا طالما لم أجده داخل قلبي!
أكثر ما أؤمن به اتجاه تخطينا ما نواجهه من جراح خفية، تلك التي تلدغ شغاف القلب ولا يعلم عنها أحد وخاصة الناجمة عن أقرب الأشخاص لنا: ندوب العائلة، فشل العلاقات، فقدان الأصدقاء، أو موت أحدهم، بمعنى آخر الخسارة المريرة لأي شيء قد تحبه وتضع معنى لحياتك فيه: أنك طبيب نفسك!
كان من الصعب علي أن أكتب هذا وأعترف به، لكنه أكثر ما التمست حقيقته خلال رحلة التشافي الطويلة التي أمر بها، لأنك مهما كنت بارعًا في التعبير عن جراحك هناك مرحلة يعجز معها من هم حولك عن الإحاطة بها، تتخطى حدود فهمهم وعقلهم وإحساسهم، لأن لا أحد يمر بالألم نفسه وإن كان الجرح واحدًا في الشكل الخارجي، لا أحد يعبر عن ما مر به بالطريقة ذاتها، لأن كلنا يظن أن جراحه تختلف عن غيره وأنه الوحيد الذي مر بهذا وكلنا نمتلك بصمة خاصة في التعاطي مع جراحنا وبمراحل متفاوتة لنفس الاستجابة أحيانًا،
حين يسألني أحدهم كيف يساعد شخصًا يحبه، ولا أعلم إن كنت على صواب، أخبره أمرًا واحدًا "ما لم يشأ أن يساعد نفسه وينتشل روحه من الذي يلم به فلن تستطيع أنت أن تفعل، سترتطم بجدار ما في مرحلة ما ومعه لن تدري طريقًا للسير عبره، لأنه ببساطة يغفل قيمة الأمر الأهم في هذا العمر وهي أهمية روحه ونفسه، أهمية كونه ما زال قادراً على تنفس هواء هذا الكوكب"
كيف عالجت ما يخصني؟
ببساطة لم أعد أحتفظ بمثل هذه الجراح في صناديق سوداء وألقيها بعيدًا في قعر قلبي، على العكس تمامًا، حتى وإن عجزت عن مواجهة السبب الرئيسي فإنني أستمر بالتحدث عن الأمر مع نفسي وأفرغ ما في جعبتي، أفرغها كلها بالتفاصيل المملة، بكل المشاعر السلبية التي شعرت بها وقت الجرح، كل الدقائق التي تعثرت بها نبضات قلبي وأريقها مرارًا حتى لا تعود تعني لي شيئًا، وأكون حذرة حتى لا أقع فريسة هذه الدائرة المفرغة وتصبح حقيقتي لأنني سبق وأن وقعت، لا أدري بالضبط ما الذي تغير، لكن الإنسان يتبصر بنفسه كلما سكن إلى ربه وأعاد المحاولة كرة بعد الأخرى ليتفادى أخطاء محاولات المرة الفائتة،
لهذا كلنا طبيب نفسه في مرحلة ما، كلنا فقط مخول بمساعدة نفسه في مكان ما، حين تتوقف أذهان من هم حولنا عن السير بمحاذاتنا وحين نتفرد بالشعور الأكثر تميزًا بالألم وتتوقف أبجديتنا كلها عاجزة عن توصيفه!
كل واحد فينا يمتلك طريقة مختلفة للشفاء وما نفع مع شخص تعرفه ليس بالضرورة أن ينفعك، لأنك في المفترض الأدرى بغياهب روحك، لهذا لا تتوقع نفس النتائج ولا حتى نفس السرعة الزمنية، كلٌ له ميزانه الخاص. لكن الميزة الواحدة المشتركة هي المحاولة وعدم الاستسلام.
وأنا أكتب كل هذا، تتجلى لي صورة فتاة لم تتوقف يومًا عن المكابدة لتنجو مما حل بها، لم أرها يومًا تنزوي عن محاولة عيش الحياة رغم الثغر في قلبها، وابتسم بفخر حين أرى ما وصلت إليه، كان مشوارنا معًا متعبًا واستمر لسنوات وإن تعثرنا مرارًا كانت تبقي بإصرار على جذل الأطفال في عينيها، لهذا يميل قلبي كله لها، أحب الذين لا يتخلون، ويشقون نوافذهم لأشعة الشمس، أحب الذين يستمرون والثقوب في قلوبهم تزهر نايًا يصعب على أي كان أن يتجاهل روعته!
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
ذكرتني بأبيات.
دَواؤُكَ فيكَ وَما تُبصِرُ
وَدَاؤُكَ مِنكَ وَما تَشعُرُ
أَتَزعُمُ أَنَّكَ جُرمٌ صَغير
وَفيكَ اِنطَوى العالَمُ الأَكبَرُ