عالم ما بعد كورونا عزز من الفردانية والانعزال والوحدة بين الناس
بينما أشاهد مقاطع على وسائل التواصل الاجتماعي لفتيات في العشرينات والثلاثينات يعبرن عن شعورهن بالوحدة، ويصفن حقيقة واقعهن، أنه بالرغم من الاستقلالية، والعمل، وصورهن الجميلة والسعيدة التي يقمن بوضعها على وسائل التواصل الاجتماعي إلا أنهن يعشن الكثير من "عطلات نهاية الأسبوع" لوحدهن في المنزل وكيف أن شعور الوحدة يسيطر على الكثير من لحظاتهن وأيامهن.
استوقفني حقيقة الموضوع، وصُدمت للكم الهائل من التعليقات من الناس اللذين يشعرون بذات الوضع ويعيشون ذات الحالة.
لوهلة رادوتني أول فكرة هو تغير المجتمع وتحوله من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي، خدماتي، تكنولوجي تقني متطور، كيف أنه حقيقة غيّر المنظومة الاجتماعية، وأثر في تفاصيل حياة الكثيرين، وبالتالي كان سببا في ظهور كثير من المشكلات النفسية، أو المعضلات الاجتماعية التي لم تكن سابقا موجودة أو متعارف عليها.
يعني، أعتقد الجدات لن يشعرن كثيرا بانتماء ولن يتفهمن حقيقة الموضوع الذي نتحدث عنه حاليا، لأنهن واكبن حياة مغايرة، حيث كانت العلاقات الاجتماعية مختلفة، واحتمالات الحياة محدودة أكثر، والعالم كان يبدو لهن محصورا في داخل منزلهن، وقريتهن، أو مدينتهن، وفكرة الوحدة لم تكن مطروحة، فكان اليوم مليء بالمهمات من تنظيف واعتناء بالأطفال، والجارات اللواتي يملأن يومهن بأحاديث غير مهمة، والواجبات الاجتماعية والزيارات المتبادلة، كان كل ذاك كفيل بأن يعيش الإنسان حياة صاخبة اجتماعيا، وممتلئة بالأشخاص والوجوه، فلن يقلق لثانية بأنه سيقضي يومه وحيدا، أو يتمنى لو كان لديه رفيقا أو حبيبا يأكل معه، يتنزه معه.
لكن ..
أعتقد في هذا العالم الجديد بات يتم تعزيز فكرة الفردانية أكثر، وتم نسف طريقة الحياة السابقة وكثير من القيم والعادات القديمة، حتى بات النظام الجديديعزز من الوحدة ويعظم المسافة بين البشر وأحضر المزيد من عدم التفاهم بين الناس وأقل ثقة فيما بينهم، وتركيز أكثر على الذات حتى باتت فكرة "الجار" "الصديق" "الحبيب" يشوبها شيئا من الضياع والهشاشة.
اليوم بات الكثير من الشباب والشابات مضطرين للتغرب والسفر والعمل بعيدا عن منازلهم وعائلاتهم لأن شكل الحياة اختلف ولأن متطلبات الحياة أصبحت كثيرة والتحديات عظيمة أمام مسارهم المهني وتفصاصيل حياتهم ولان الأحلام لم تعد تتحقق في كافة الدول، ما عادت حتى الأحلام تقتصر على مزرعة، وزرع وفير وبيت عائلي كبير بسيط، بل أصبحت تتعدى كل ذاك في ظل نُظم ومجتمعات استهلاكية، كما أن العديد من الدول التي سقطت اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وانسانيا وما عادت تصلح للحياة.
والموضوع غير مقتصر على الدول العربية حتى في الدول الغربية.. الشباب مضطرين للرحيل إلى ولاية أخرى ومدينة أبعد حيث تتوفر الفرص والعمل والمصانع والأموال والحياة.
أما الفتيات في رحلة نضالهن الحالية لتغيير وضعهن قانونيا واجتماعيا وثقافيا وأخلاقيا في المجتمع، أصبحن يتعلمن ويعملن ومن المهم جدا الاستقلالية المادية والمعنوية لهن، للتحرر من نظم اجتماعية قتلتهن وعذبتهن لسنوات طويلة جدا.
المهم، ما عدنا اليوم في مجتمع زراعي، حيث كانت طبيعة الحياة وطبيعة العمل تتطلب تكاثف الجهود وتعاون في العمل فيما بين أفراد العائلة للصمود، لذلك تجد الأبناء يعيشون في ذات منزل العائلة الكبيرة مع الوالدين والأجداد طيلة حياتهم حتى وإن تزوجوا لكن اليوم بات النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ومتطلبات الحياة واحتمالاتها مختلفة.
فهناك حاجة للاستقلالية التامة عن العائلة، وهناك مبررات لذلك، فمكان السكن مرهون بفرص العمل، وما عادت الزراعة هي مصدر الدخل، بل أعمال خدماتية، تكنولوجية، صناعية.
حتى أن الوعي بدأ يختلف حقيقة من جيل لآخر، ففي القدم مثلا كانت الشابة تتزوج ابن عمها لأن هذا الاحتمال المتاح لها حتى وإن كان سيء الطباع أو لا يصلح ليكون زوجا، أو لا تحبه حتى، لكن هذا ما كانت تنتظره هي بدورها لأن لا خيارات أمامها أو ممكن أن نقول "الخيارات محدودة".. لكن اليوم الفتيات أصبحن بوعي وإدراك كبير، قويات متعلمات مدركات لطبيعة الحياة .. مستقلات مثقفات ولا حاجة لهن بأن يقبلن ببساطة بأول من يطرق بابهن لأجل الزواج والإنجاب وفقط.
اليوم بدأ هناك انتقال كبير في وعي المجتمع، وانفتاح على أفكار جديدة، وقيم جديدة مختلفة في الثقافة والمفاهيم وطبيعة العلاقات، ولأننا في مرحلة التغيير ، فالطبيعي أن في 2022 ما زال هناك ضياع وصراع جمعي بشكل مبطن في القيم والمصطلحات والأسس المتفق عليها في طبيعة العلاقة وشكل الحياة والنظام، هناك ضياع في الهوية لدى المجتمعات، بين الماضي والحاضر، وعدم وضوح تام وواضح لشكل العلاقات ومفهوم الحب والزواج والصداقة والمسؤوليات والواجبات.
هذا التغير المفاجئ جلب ضياعا كبيرا للمجتمعات والأفراد، يعني هذا طبيعي في المرحلة الانتقالية، خاصة أن هناك تفاوت كبير بين الدول، في تقدمها وطبيعة حياتها، وتداخل كبير حتى وعدم وضوح حقيقي في تقسيم الطبقات الاجتماعية، فمتوسط الدخل اليوم يعيش في وهم الرخاء تماما مثل الغني، أي المظاهر والظاهر من المجتمع ليس واضح بشكل علني في وضع الأفراد الحقيقي، اقتصاديا وما يجلبه من أثر عليهم نفسيا واجتماعيا.
وهذا ما سبب في النهاية انعزال لدى الاغلبية وقلة ثقة في بعضهم، ظهور الكثير من الخداع، اهتمام بالذات بشكل أناني، طمع، اختلال في القيم، كما أن هناك توجه لدى الشباب وتحول إلى مرحلة "عدم تحمل المسؤولية" وضياع بين الاحتمالات العديدة، وعدم ثبات وتجذر مادي بسبب تحديات الدول والحاضر.
حتى أن عالم ما بعد كورونا عزز من الفردانية والانعزال والوحدة بين الناس ووسائل التواصل الاجتماعي استبدلت اللقاءات بمكالمات صوتية أو فيديو أو بمجرد بقايا رسائل مختصرة.
بعد التشخيص في داء المجتمع والتحول الذي يمر به، فهم التحولات والتغييرات هي جزء من الحل، وجزء من الشفاء الداخلي، وتقبل بعض الوضع والحالات على أنها ليست "شخصية" وبسبب خل معين في الشخص، ولا بسبب عطب في صفات أو أسلوب "الفرد" إنما هو مجرد نظام كبير يجري ويطبق على الجميع في تفاصيل حياتهم، سواء كانت العامة تحب ذلك أم لا، ما يحدث مثير للاهتمام ويتطلب دراسة من علماء الاجتماع وعلماء النفس اليوم، وإيجاد صيغة مناسبة لحل هذه المشكلات وتخفيف شعور الوحدة وبعض المشاعر القاسية وتخفيف أثرها على الأفراد بطريقة أو أخرى.
نحتاج ان يدعم الناس بعضهم بعض بشكل أكبر، أن يكونوا عونا لأنفسهم ولبعضهم.
أن لا نستبدل كافة القيم السابقة والقديمة بسهولة، أن نحاول إيجاد صيغة تناسب العصر الجديد والقيم الجديدة دون الحاجة للانعزال التام، وهذا يحتاج أيضا لوعي جمعي ومساندة من الجميع للجميع.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
صدقتي في كل حرف .. طبيعة الإنسان التكيف على مانشأو عليه في الصغر ورأوه امام اعينهم ، حيث كان نموذج المراءه هي الزوجه والأم التي تهتم بشؤون بيتها واطفالها وتفعلها بكل ... بينما الآن تشعر الفتاه انها تجاه صراع بين النمط القديم الذي نشأت عليه في صغرها وبين نمط التطور الذي تراه امامها ! وحتى لو انها سعت للعودة للوراء والعيش كما في الماضي ستشعر انها متأخره وغير متطوره ويعود سبب كسبها لهذا الشعور هو محيطها من اراء صديقاتها او ماتشاهده عبر مواقع التواصل الأجتماعي