مقال يتحدث عن الصورة النمطية لأدوار الرجل والمرأة والعدالة التوزيعية

قوالب مسبقة الصُنع

تخيل معي ما يلي، ما هو أول ما يتبادر إلى ذهنك حين نقول: طيار ماهر؟

لا بُد أن ما تبادر الى ذهنك لدى سماعك للسؤال هي ذاكرة صورية ممتلئة بمئات الصور لطيار مدني أو عسكري ماهر يجلس في قمرة القيادة، وسيم بالطبع كما تصوره السينما، يرتدي بذلته الرسمية وعلى صدره شعارات الدولة التي ينتمي لها، وتعتلي رأسه قبعة منمقة، وقد يتبادر الى ذهنك صوته الرزين وهو يخاطب الركاب بتفاصيل الرحلة، ويتمنى لهم سفرًا سعيدًا.


في ذات السياق لو تحدثنا عن مهنة مُتشابهة في ذات المجال، كمهنة الأشخاص الذين يرافقون هذا الطيار في رحلته على متن الطائرة، ويساعدون الركاب في حزم الأمتعة والحقائب، وربط أحزمة المقاعد، ويقدمون لهم الوجبات والمشروبات بعد سرد تعليمات السلامة العامة. فلا شك أنه قد تبادرت الى ذهنك صورة مضيفة الطيران المثالية، تلك الحسناء ذات الشعر الأشقر والعيون الملونة، والقوام الممشوق، وهي تتحدث اللغة الإنجليزية بلكنة مميزة.


هذا المثال هو تجسيد حي للصورة النمطية لأدوار كل من الرجل والمرأة، إذ إن ارتباط بعض المهن والأدوار الاجتماعية بالجنس البيولوجي أو الجندر أصبح واضحًا، ويُردّ ذلك لأسباب متعددة بعضها متوارث في الموروث الثقافي، وبعضها تداوله العامة بحكم العادة المجتمعية، والآخر بحكم التنشئة في كل من المنزل والمدرسة.


إذ تتجلى هذه الصورة النمطية بشكل صارخ في السياق الوظيفي، فبعض المهن ارتبطت بشكل وثيق بالجندر كما أسلفنا الذكر في المثال السابق إذ ارتبطت مهنة الطيار بالذكور، ومضيفة الطيران بالإناث، وعلى ذات المنوال ارتبطت مهن أخرى بالإناث كالحياكة، والخياطة، والرعاية المنزلية، والسكرتارية، إضافة إلى المهن المتعلقة بالتجميل، وصولا إلى التعليم المدرسي للأطفال في الصفوف الثلاثة الأولى ورعاية ذوي الاحتياجات الخاصة، حيث إن الإناث صِرنَ يشغلنَ الجزء الأكبر من الأيدي العاملة في هذه القطاعات فعُرِفَت بهن، لتجد أنه من النادر أن يشتغل الذكور في بعض هذه المهن، بل ومن المُستغرب ذلك أيضًا.


على النظير، فإن بعض المهن اليدوية وتحديدًا تلك التي تحتاج جُهدًا بدنيا أو تحتاج التعرض الأكبر للمجتمع أصبحت محتكرة تقريبًا على الرجال كالصناعات والحرف اليدوية مثل النجارة، والحدادة، والسباكة، والخراطة. ومهن أخرى مثل قيادة المركبات العمومية وحافلات النقل العامة، وإدارة محلات البقالة والجزارة وغيرها.


هذا الارتباط وإن كان منطقيًا في معظم الأحيان إلا أن في منطقيته مغالطات متعددة تبدأ أولها من السؤال الأهم، وهو أن هذا الارتباط يحصل بدوره لأنه منطقي وعقلاني وهو ما يجب حصوله، أم فقط لأنه أصبح مألوفًا ولا يجوز الخروج عليه بحكم العادة؟ بالإضافة الى أن المغالطة الثانية تكمن في أنه ولو لم يبدُ من المنطق أن تعمل المرأة في المجالات التي ارتبطت بالرجل أو أن يعمل الرجل في المجالات التي ارتبطت بالمرأة، فإن هذا لا يُلغي حقهما في الاختيار المطلق للمجال الذي يرغب كُل منهما العمل به. بل ولا يستوجب أن يُمنَع أحدهما من العمل في مجال يرتضيه أو أن يُفرض عليه العمل في مجال لا يحبه فقط احتكامًا للسرد المجتمعي ورغبة على الانسياق خلف التيار السائد، ورفضًا للخروج عن هذه الصورة النمطية بسبب الخوف مما يُسمى بالوصمة المجتمعية.


والوصمة أو السمة المجتمعية هي رفض المجتمع القطعي لشخص أو مجموعة أشخاص لأسباب اجتماعية متفق عليها – متفق عليها إجماعًا بالأغلبية وليس بالضرورة أن يكون رأي الأغلبية صوابًا – بحيث يكون هذا الشخص أو المجموعة معروفين بالسبب الذي رُفضوا من أجله فيُوسموا به ويصبح وصمة مميزة لهم.


وغالبًا تُخلف الوصمة الاجتماعية الناتجة عن الأدوار المجتمعية آثار سلبية كالصورة النمطية المغلوطة، والحكم المسبق على الأشخاص والتعامل معهم وفق أدوارهم لا أشخصاهم وذواتهم. فعلي سلبي المثال نظرة المجتمع مثلا الى سائقي المركبات العمومية بأن معظمهم من أصحاب السوابق، أو نظرة المجتمع الى العاملات في السكرتارية وإدارة المكاتب بشكل يُشكك في أخلاقياتهم، أو النظر الى المحامين والعاملين في القضاء بعين الاتهام بالرشوة والفساد والدفاع عن اللصوص والمجرمين. وتلك المهن في جوهرها لا توحي بأي مما سبق، ورُبما يكون العاملون بها أناس بُسطاء يسعون في الأرض لكسب رزقهم شأنهم شأن المهن الأخرى دونما اختلاف.


ولا يتوقف قطار الصورة النمطية عند المسار الوظيفي والعمل، بل يتعداه الى الحالة الاجتماعية، لتطلق أوصاف غريبة بالاعتماد على الدور الاجتماعي وحده، كالعانس مثلاً التي يعتبرها البعض عيبًا في الفتاة منعها من الزواج، وإطلاق حكم التمرد على الزوجة التي انفصلت عن زوجها واستخدام الطلاق كوصمة اجتماعية تحت لقب مُطلقة، وتسمية الشاب المتدين بالشيخ وتصنيفه ضمن خانة محددة يجب الالتزام بها ويمنع الخروج عنها فقط لأنه متدين.

هذه المغالطات غير المنطقية تنطوي على مشاكل عديدة في جوهرها، وإن أقصر طريق لتفتيت المجتمع هو تقسيمه بهذه الصورة ضمن قوالب مسبقة الصنع ووضع ملصقات على الأشخاص تصنفهم فيها حسب نوعهم أو دورهم الاجتماعي أو وظائفهم، دون النظر إليهم ككيان مستقل يستحق الاحترام والتقدير رغم كل الاختلافات، ففي نهاية المطاف البشر مختلفون وأدوارهم الاجتماعية تُكسبهم قيمة إضافية عوضًا عن أن تُنقص منهم شيئًا، ولولا هذا الاختلاف لاستحالت حياتنا جحيمًا فلا أظن الحياة ستكون ذات مغزى ومعنى حين تعيش ضمن مجموعة من النسخ الكربونية المكررة، لذلك عليك أن تعتاد هذا الاختلاف وتشعر بقيمته وتعود نفسك على تقبله شئت أم أبيت.


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات هاشم العالم

تدوينات ذات صلة