من مجموعة ( قهقهة واحدة تكفي) تحمل وطناً كاملاً في ثنايا السرد.

عندما متُّ هبتْ ريحٌ عاصفةٌ أسقطت ورقةَ التوتِ التي كنت أستتر بها، داريتُ سوأتي بيدي وبورقةٍ جلبتها معي قبلَ أنْ أغادر، وركضتُ متوغلاً باتِّجاه المقبرة، ولجتُ لأولِ قبرٍ وجدتُه أمامي، هرباً من عيون المارين بجانبِ المقبرة، الذين أعجبهم المشهد. كانَ القبرُ لشابٍّ ماتَ قبلي بأيام، ما زال لم يستوعبْ سبب موته، ولم يألفْ بعدُ المكانَ، لم يعجبني وضعه، تركتُه وسرتُ بين القبور عسى أنْ أجدَ قبراً يثير بقلبي الفرح. من قبرٍ لآخر وجدتُني أخيراً في قبرِ أبي، لم يفاجأْ ولم يذهله قدومي، كان يبدو طبيعياً لولا أنه فاجأني بسؤالٍ قبل أنْ أمدَّ يدي للسَّلام عليه:- هل أحضرت معك حجج الأرض وأوراق الملكية؟ أبي كان مهووساً بالأرض، أرضه هو، لذلك كانَ من المنطقيِّ أنْ تكون هي أولَ ما يخطرُ بباله للسؤال عنه عندما يزوره زائرٌ من العائلة، خلته في إحدى زياراتي السَّابقة له قبل الموتِ يقفزُ من قبره ليسألني عنها، أذكر حينها أنني رددتُ عليه بصوتٍ خافتٍ حتى لا أتَّهم بالجنون، " الحجج وأوراقُ الملكيةِ معي، لا تخفْ أيها الميتُ المكابر" تلك الليلةُ بقيت طوالَ الليلِ أسمعُ صوتَ خطواته على سطحِ البيت، وكأنه ينتظرني لأمنحه الأوراقَ قبل أنْ يعودَ لقبره.قلت لأبي أنها كانت بحوزتي واضطررتُ لاستخدامها أثناءَ قدومي لتغطية عورتي بها، وهذا دفعه للصُّراخ كالمجنونِ، وطلب مني العودةَ للبحث عنها، صدمتُ من كلام أبي وجنونه والصُّراخ الذي أطلقه، إذا لم نتمكنْ من سترِ العورةِ بأوراقٍ باليةٍ لميتٍ شبع موتاً، فما نفع الأوراق؟؟تركته يصرخُ وعدت متسحِّباً بين القبور محاولاً التَّذكُّر أين مشيتُ وأين وقفتُ وفي أي قبر سقطتْ مني، عدت لقبرِ الشَّاب الذي لم يستوعبْ بعد سبب موته، ورغم انزعاجي من تصرُّف أبي إلا أنني ابتسمتُ مرغماً عندما تذكرتُ أنَّ الموتَ بحاجةٍ لمن يستوعبه! الموتُ لا يحتاج لأسبابٍ واستيعابٍ هو فقط أمرٌ يحدث، هكذا ببساطةٍ يحدثُ دونَ أنْ نملكَ سبباً له.كان الشَّابُّ ما زال على حالته، حاولتُ التَّحدثَ معه بطريقةٍ لطيفةٍ حتى لا أجدني مطروداً من قبره أيضاً:- ما اسمك؟- أنا ؟ تريد اسمي أنا ؟ لم يحدثْ أنْ سألني أحدٌ هنا عن اسمي سابقاً، لذلك لم أعدْ متأكداً إنْ كان اسمي صحيحاً أم أنني اخترتُه بعد الموت، ثائر ... نعم اسمي ثائر.- وكيفَ مِتَّ؟- لمْ أمتْ؛ أنا فقط كنتُ أتنزه مع صديقي عندما سقطتُ بحفرة، وعندما استيقظتُ وجدت نفسي هنا، لمْ أمتْ ... أنا لم أمتْ، ولكنْ يبدو أنَّ هناك من دبَّر لي هذا السقوط، سأعود سأترك لهم المقبرةَ وأعود، فقط عندما يخفُّ تواجد الفضوليين بالخارج، فآخر مرةٍ حاولتُ الخروج، لم أسلمْ من عيون الفضوليين.- أنا عانيت من هذا أثناء قدومي، مما اضطرني لتغطيةِ عورتي بورقةٍ كنت قد جلبتُها لأبي، وهو الآن غاضبٌ لأني أضعتُها في الرحلة إليه، هل وجدتَ ورقةَ صفراءَ بعد مروري بك قبل قليلٍ؟- لا شكَّ أنك مجنون وأبوك كذلك، أنا لستُ حارساً للمقبرة، ولا أنظرُ خلف هذه الترَّهات، ما رأيك لو تسللنا عندما يهبط الظَّلام لنخرج من هنا، ما زال أمامي عملٌ لم أنههِ منذُ شهرٍ وأكثر، تركتُ أمي دونَ مأوى وطعام، وتركتُ صديقي الأعمى دون عصاه، فقد كانت بيدي حين سقطتُ وأريد أنْ أعيدها له.- أنتَ لم تفهمْ ما قيمة هذه الأوراق عند أبي، هذه حياتُه السَّابقة، وطفولته وشبابه، هذه حياته وأرضُ أجداده، هل تعرفُ قبل سنواتٍ من موته، عرضتُ عليه بيعها لنتمكنَ من العيش، ولكنَّه لطمني لطمةً قويةً أطاحتْ بضرسٍ من فمي. أطلق الشَّابُّ قهقهةً كادت لقوتِها أنْ تطيح بالقبر، تركتُه وخرجت، لا بدَّ أنه من ضحايا " فيضان الجثَّة " ذلك الفيضانُ الذي جرف الناسَ حتى أن من شاهد صوره ظنَّ أنه لم يخرجْ من هذا الفيضان أيُّ شخصٍّ حيّ، جرف الناسَ وهمْ على هيئاتِهم التي كانوا عليها، ومنهم منْ لمْ يصدِّق موته مثلَ صاحبنا هذا . عدتُ أدراجي للبحثِ عن الأوراق، ساعدني الليلُ على التَّسللِ إلى خارج المقبرة، تحسستُ مكانَ قدمي وأنا أضعُ يداً فوق رأسي، والأخرى أتهجَّى بها حوافَّ القبور، تعثرتُ بالعديدِ من الزُّجاجاتِ الفارغةِ، وبعضِ النفاياتِ التي يحلو للبعضِ رميُها في المقابر، وأنا أتحسَّسُ طريقي وسطَ هذه الأكوام، شعرتُ بخشخشةِ أوراقٍ تحتَ قدميَّ، حملتُها وتوجهتُ بها لمصدرِ ضوءٍ بطرفِ المقبرة، سرتُ مهرْولاً عسى أنْ تكونَ أوراقَ أبي. وصلتُ لاهثاً وأنا أحملُها بيدي رغمَ روائحِ الفضلاتِ التي تفوحُ منها، عندما فتحتُها كانت هي أوراقَ أبي، من شدةِ الفرح قبلتُها، وركضتُ متجاوزاً القبورَ لقبرِ أبي:- أبي ... أبي هذه أوراقُك كما هي وكما تركتَها. لم يجب أبي، وعندما نظرتُ إليه وجدته، قد عادَ لموته، وضعتُ الأوراق بين يديه، بجانبِ قلبه، وتوسدتُ صدره فوقَ الأوراقِ وعدْتُ لموتي.


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات رائدة زقوت

تدوينات ذات صلة