قصة قصيرة، نشرت في مجلة فيلادلفيا الثقافية ، من مسودة مجموعة قيد الكتابة
لا أستطيع أن أخرج ولا أن أتحرَّر، أعيش في صندوق داخل عقلي، أدفعه بقوة ولا يلين، كلَّما هممت بإضعافه زادت سماكته حولي، أصرخ ... أصرخ بأعلى صوت ممكن أن يخرجه كائن حيّ من جوفه، يرتد الصّوت على رأسي فيضاعف ألم السّجن، لا أريد الحرية. كذبت عليكم، أريد الغباء بكامل حضوره، البلاهة العذبة، أريد السّير الآليّ وفق برنامج معدّ مسبقا، وإذا خرجت عن الخطّ ضحكوا عليّ وقالوا: بلهاء في روحها عرج.أتخيَّل نفسي واقفةً أمام المرآة طويلًا أعدُّ الشَّيب في شعري، أعدّل وضع وجهي الباهت وأصبغه بألالوان.هلْ قلت لكم بأنّني آخر مرة نظرت للمرآة شاهدت وجهي يميل باتجاه الجهة اليسرى، خفت كثيرًا من هذا الميلان، لم أفكّر بعدها في تغيير المرآة أو تفحّصه في مرآة أخرى، خشيت أن يبدو طبيعيّا وأفقد متعتي الصّغيرة بالقلق من انحرافه إلى اليسار، وأن تتعافى معدتي من ألمها وانقباضاتها، وأفقد أيضًا فرحتي المتواضعة بالتّحايل على الصّندوق حيث أقيم. صهيل الفرس في رأسي يزداد، تدكّ بسنابكها جدران عقلي تريد أن تخرج، تريد أن تنطلق في البراري لتمارس الصهيل دون سرج يكبّل ظهرها، ولجام يشدّ على حنجرتها فيخرسها، ولكنّها ترتطّم برأسي السّجين في صندوقه، فتلتزم الخيبة وتعود القهقرى لزاويتها.لا أعرف إنْ كان وجهي قدْ تعدّل وخف ميلانه، لا أملك الرّغبة للنّظر في المرآة، وحتى إنْ تعدّل وعاد لانتصافه ماذا سيتغيّر؟ هل سأعود من الصّندوق لتأدية مهامّي بابتسامة فاترة ودون تقطيبة جبين، أو شكوى منْ ملل الاعتياد؟ هلْ سأقف طويلًا أمام المرآة لأصفِّف شعري، وأضع الأصباغ بعناية!ألم المعدة الذي زاد منذ انحرف وجهي لليسار دفعني لزيارة الطّبيب المختصّ، سألني الطّبيب الكثير من الأسئلة وأجبته براحة تامّة ودون الخوف من وجود احتمال لأمراض خطرة. قلت له :- المشاعر تندفع من معدتي، ما أن تتحرك مشاعري حتّى أشعر بالشبع والامتلاء، وأتوقّف عن تناول الطّعام، والنّبض أيضاً يعلو ويهبط منها، لا أعرف إنْ كان هذا يلغي فرضيّة القلب؟ وأنا الآن في حالة غير مستقرّة، لا أعرف متى أكون جائعة أو شبعانه، ولا أعرف أيضًا متى يكون النّبض عاليًا ولا متى يهبط ! ويفعل الهاتف في معدتي فعل المشاعر، إلا أنّه يشدّ الأوتار أكثر فأصبح مزرقّة مصابة بالاختناق، ولا تنتهي الحالة بانتهاء الرّنة!يبدو أنّ كلامي لم يرق للطبيب إذا نظر نحوي نظرة كلّها شكّ وريبة، وحاول ضبط تهدّج صوته وقال:- مشكلتك نفسيّة سيّدتي، لا أظنّ بأنّك بحاجة لفحوصات وتنظير مالم يطلب الطّبيب النّفسيّ منك هذا. ذهبت من فوري إلى الطّبيب النّفسيّ، ما أن جلست قليلًا أمامه حتّى لاحظت بأنّه شخصيّة لا تخلو من اضطراب، لولا بعض الاتّزان الذي تفرضه عليه مهنته لكان يجول معي الآن يبحث عن علاج له.- تكلّمي بحريّة، هنا لا أحد غيري وغيرك سيّدتي.تكلمت لا رغبة في الإجابة عن طلبه، ولكن لأبدو مريضة جديّة - الألم في معدتي دكتور ولكنّه ليس الأساس، وميلان وجهي لليسار أيضًا مشكلة، هل هي مشكلتي الأساسيّة؟ أو أنّه رأسي! أظنّ بأنّ واجبك أن تحدّد المشكلة، أليس كذلك؟ - أكملي ... أكملي. - دون ترتيب... هل أستطيع الكلام دون ترتيب؟ - طبعًا .. - رأسي سجنني منذ مدة، معدتي أيضًا توقّفت عن توضيح الإشارات، المشاعر ... المشاعر غائمة ولا تستطيع المعدة أنْ تكشف عن معدنها، التّلبّد، الفوران والسّيول المحتملة في حالة لم يتمّ الكشف، الصّهيل المكبوت، هذه الفرس الرّعناء مكبّلة داخل رأسي المحاط بالصّندوق المربع، الرّاقصات ذبحًا يتهاوين واحدة تلو الأخرى، وأنا أيضًا أتهاوى معهن دون ذبح، قرع الطّبول داخل رأسي السّجين داخل نفسه، الصّراخ الذي لمْ يفلح في شقّ طريقه. ميلان وجهي بكلّه لليسار على المرآة، وأنا داخل كلّ هذه المرّبعات الخرسانية ولا مخرج، أريدُ الخروج فقط.دون أن أنتظر إجابة الطّبيب لملمت نفسي وتوجّهت للباب وسط ذهوله وخرجت، تركت العيادة وتوجّهت للشّارع العامّ تحملني صناديقي بعد أن اكتشفت الكثير منها عند الطبيب.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات