ما الذي يجعل للمنظمات أحلام تنفصل عن واقع الحال وماعلاقة ذلك بالمسكنات والفيتامينات؟

طالما كانت فكرتك أو دورك مثل الفيتامين وليس مثل مسكن الألم painkiller فإن فرص قبول فكرتك أو تقدير دورك تتضاءل بشكل كبير. نصيحة سمعتها من أحد الأصدقاء الذين أثق في آرائهم ومشورتهم التي أثبتت صحتها مرارًا وتكرارًا. كرر نفس الجملة تقريبًا توني فاضل في كتابه الأروع Build عن الحلول التي تقدمها الشركات الناشئة وأهمية أن تحل مشكلة للمستفيدين بدل أن تكون مجرد تحسين يمكن أن يستغنوا عنه في أي لحظة. كلام توني له وزن ثقيل، فهو مهندس قدير و رائد أعمال عريق ابتكر الآيبود وقاد فريق تطوير الآيفون في آبل ثم غادرها وهو في قمة تألقه لتحقيق حلمه ببناء أجهزة منزلية ذكية فأسس نيست لتطوير الثيرموستات والتي استحوذت عليها قوقل بعد ذلك.


توقفت كثيرًا عند ذلك التشبيه الذي يعظم دور المسكنات وحل المشكلات بدلاً عن الفيتامينات المرتبطة بالتحسينات. فمن المعلوم أن المسكنات سريعة المفعول يمكن الإحساس بأثرها لحظيًا كي يتمكن الإنسان من تحمل الآلام الموجعة فيتحرك أو ينام في سلام، بينما الفيتامينات تراكمية الأثر طويلة الأمد لاتظهر نتيجتها لتحسين الصحة العامة سريعًا. في نفس الوقت فإن الاستمرار على المسكنات يضعف فعاليتها ويتطلب زيادة جرعتها وقد يدخل الإنسان معها في حالة من الإدمان الذي يصعب الانفكاك عنه. بينما يظهر أثر اتزان مستويات الفيتامينات على ضبط عمل وظائف الأعضاء وفعالية نظام المناعة وتناغم أداء جميع أجهزة الجسم، وتكمن الإشكالية في أن إهمال تدهور مستوى الفيتامينات قد لايظهر أثره سريعًا إلا على هيئة أعراض متفرقة هنا وهناك حتى تصل إلى مرحلة معينة من الانحدار الذي يصعب تداركه إلا بجرعات مركزة..ولكن هيهات هيهات فمن الصعب أن تظهر فوائدها بنفس سرعة تناول المسكنات.


ولكن ماهي علاقة التعلق بالمسكنات وتفضيلها على الفيتامينات بحياة المنظمات؟ إن تباعد الزمن بين الفعل وأثره الإيجابي أو السلبي مثلما هو حاصل في الفرق بين أثر المسكنات والفيتامينات قد يوقع المنظمات في فخ تفضيل المهم والعاجل على ماهو مهم وغير عاجل بشكل دائم، كما يجعلها تتجاهل دون قصد الممارسات التي تعزز التواصل لتوضيح الاتجاه وتبني التعلم المؤسسي وتحقق التعاقب الوظيفي وتنمي اللياقة التنظيمية عبر الأجيال. ويحدث ذلك رغم ظهور تلك الركائز الملهمة في معظم كلمات قادتها لكنها تبقى، في غالب الأحيان، حبيسة شرائح عروض البوربوينت الباذخة مع رفيقاتها الأنيقات وهن الرؤية والرسالة والاستراتيجية و الهياكل التنظيمية.

إن ذلك الإحساس بالنشوة يجعل من التطوير والتحسين اختيارًا أقل وهجًا وإثارة وجاذبية للعمل عليه رغم الشعور العميق بفائدته وأثره على التطور والاستدامة، لذا فمن الطبيعي أن يتوقف أو يتباطأ لأي سبب عارض مثل الانشغال بمهمة طارئة أو مغادرة مسؤول مفاجئة أو حتى ظهور أعباء مالية غير متوقعة


في كتابه الثمين المجال الخامس - الفن والممارسة للمنظمة المتعلمة the fifth discipline the art and practice of the learning organization. يعزو بيتر سينقي حدوث ذلك الانفصال بين الآمال و واقع الحال إلى خلل في الاستيعاب العملي للفكر النظمي systems thinking الذي يقلل من تركيز المنظمة على الأحداث والأشخاص في تفسير أوضاعها ويزيد من إدراكها للعلاقات المتشابكة بين أجزائها والآثار غير المتوقعة للممارسات والسياسات الآنية وأثرها بعيد المدى الذي قد لايظهر إلا بعد مرور الزمن.


من أعراض اكتفاء المنظمات بالاستجابة فقط للمتطلبات المتلاحقة واللهاث لإنجاز المهام مهما كلفت من أثمان، ودون التفات لأسباب اللهاث المستمر ، الاضطرار إلى تكرار العمل على نفس الموضوع مرات ومرات دون نتيجة حقيقية تذكر أو أثر تحسيني ملموس. يجعل ذلك الأسلوب معظم أفراد المنظمة في حالة طوارئ مستمرة لحل المشكلات وتجاوز العقبات، والحظوة في نفس الوقت بالمتابعة والاهتمام، وفي ذلك إحساس بالرضا السريع والنشوة الوقتية التي لاتلبث أن تتبدد ليعود الشعور بالألم والرغبة في مزيد من اللهاث الذي لايخففه سوى جعجعة حركة الرحى من جديد.


إن ذلك الإحساس بالنشوة يجعل من التطوير والتحسين اختيارًا أقل وهجًا وإثارة وجاذبية للعمل عليه رغم الشعور العميق بفائدته وأثره على التطور والاستدامة، لذا فمن الطبيعي أن يتوقف أو يتباطأ لأي سبب عارض مثل الانشغال بمهمة طارئة أو مغادرة مسؤول مفاجئة أو حتى ظهور أعباء مالية غير متوقعة..فانشغال فلان أو مغادرة علان أو الحاجة لتقليص النفقات ليست مبررًا لنسيان ما قد بذروه أو غرسوه وتعهدوه بالسقيا و العناية لوقت طويل لتظهر بوادر ثماره..والمقلق أنه رغم معايشة المنظمة لنتائج التحسين إلا أنها قد تتردد في مواصلته فلاتكتفي بتخفيض وتيرته لتعاود تكريس الجهود والموارد له حين تسنح الظروف..فالتوقف الكامل يتطلب طاقة أكبر وجهودًا أعظم لتحريكه من جديد..والمؤلم هو عندما يتحسر أفراد المنظمة على فقدانه دون أن يأخذوا خطوات جادة بشأنه..فينضم العمل، في أحسن الأحوال، إلي سلسلة قصص النجاح - أو الفشل - التي تحتل مكانها في الذاكرة المؤسسية في انتظار اكتمال فصولها..وليس ذلك عيبًا في المنظمة أو تكاسلاً منها..فهي في خضم محاولات بقائها وسط التيارات التي تتقاذفها، قد جرفتها دوامة إدمان المسكنات..عن اللحاق بعوامة الفيتامينات.













ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات رأفت محمود زيني

تدوينات ذات صلة