ماهي حكاية المشروع السري الذي أصبح مضرب الأمثال في الإنجاز؟
تعد السرية التنظيمية بأشكالها البسيطة والمعقدة ..جزءًا من حياة المنظمات. منها ماهو ضروري للحفاظ على تنافسيتها أو مكانتها ومنها مايتعلق بكينونتها واستمرارية وجودها لتحقيق هدفها الذي أنشئت من أجله..
من الأمثلة المشهورة للمنظمات التي كانت السرية أساسًا لوجودها ماكان يعرف بمشروع مانهاتن لتطوير القنبلة النووية والذي بدأ عام ١٩٣٩ بعد نجاح التجربة المعملية لانشطار اليورانيوم والتفاعل التسلسلي الناتج عنه ليصل بعد ٦ سنوات إلى تجربة القنبلة في صحراء نيوميكسيكو ثم إسقاطها على هيروشيما ونجازاكي بعد أيام معدودة في شهر أغسطس عام ١٩٤٥ في تحول تاريخي مهيب غير مسيرة البشرية .
كلف المشروع حوالي ٢.٥ مليار دولار (٢٥ مليار بسعر اليوم) ومنح الأولوية الوطنية العليا والسرية القصوى التي تعني تنفيذ طلبات المشروع دون سؤال عن السبب فعندما يطلب تحويل جميع مقاولي الولاية وما ينتج فيها من خرسانة إلى منطقة ما يتم ذلك مباشرة، تطلب ذلك تنسيقًا عاليًا بين قائد المشروع الجنرال ليزلي قروڤ الذي مثل الجانب العسكري المستفيد ومدير المشروع الفني العالم الفيزيائي روبرت أوبنهايمر الذي كان يعرف بأبو القنبلة النووية والذي كان حلقة الوصل بين الجنرالات والعلماء والمطلع الوحيد تقريبًا على طبيعة مخرج المشروع بتفاصيله والجهات المشاركة فيه والمواقع التي تعمل عليه. عرف عن أوبنهايمر معرفته الموسوعية التي تجاوزت الفيزياء النظرية إلى الشعر والفلسفة وتحدثه بست لغات إحداها السنسكريتية وقدراته التواصلية العالية فكان يتحاور مع الجميع ويتمكن من إقناعهم بل وإسعادهم كثير منهم كذلك.
عمل في المشروع بشكل مباشر حوالي ١٥٠ ألف شخص من علماء ومهندسين وفنيين وإداريين في المكاتب والمعامل والمصانع وقد وصل العدد الكلي إلى نصف مليون عند حساب المقاولين وعمال البناء وسائقي الخلاطات والشاحنات وبائعي تذاكر السينما والفشار ومنسقي الأنشطة الرياضية ومعلمي المدارس الذين أنشأوا المرافق وجهزوها وشغلوها وصانوها لتكون مهيئة لعمل وإقامة المنسوبين وأسرهم وتعليم أبنائهم والترفيه عنهم.
استُقطِب العاملون للعمل في المشروع دون أن يعوا طبيعة المنتج الذي كان يعرف بالآلة The Gadget سوى أنه مهم لحماية الوطن ويجب أن ينجز بأقصى سرعة .. فكان ذلك كافيًا لجذبهم لأهميته ولما أشعرهم به من خصوصية وتميز رغم غموض المهمة وصعوبتها و مشاق العمل ضمن قيود السرية والمحافظة عليها والتي كانت تتطلب إخفاء مهامهم ومواقع عملهم ليس عن أهلهم وذويهم فقط بل وحتى عمن يعملون معهم ولايتمتعون بنفس مستوى الفسح الأمني لدخول موقع أو الاطلاع على وثيقة وخلافه. فمثلاً كان تخزين الوثائق في الأدراج المغلقة بالأقفال روتين يومي مزعج للباحثين الذين يودون مواصلة العمل على حل معادلة أو تطوير فكرة أو إكمال تصميم فكانوا يلجأون لشتى الحيل للاحتفاظ بنسخ في مكاتبهم أو التسلسل من خلف الأدراج لفتحها رغم إحكام إغلاقها بالسلاسل والأقفال وقد برروا ذلك بحجة الحفاظ على الوثائق من أن تقع في أيدي الجواسيس المتسللين الذين نجح بعضهم في ذلك.. كما كان العاملون يخضعون للتفتيش المستمر حتى في مراسلاتهم الشخصية ومكالماتهم الهاتفية وإن كانت غرامية والتي كانت تتم لتوكيد قيمة السرية وأثرها على إنجاح المشروع أو إخفاقه فقد كانت تحاصرهم أينما ساروا أو توجهوا لوحات تحمل جمل مثل الألسن المتفلتة تخلف سفنًا غارقة loose lips sink ships لذلك كانت الشائعات تبث عنوة حول طبيعة مايدور في مواقع المشروع لتشكيل طبقات من القصص حولها فمنها ماكان يعتقد أنها مواقع لتطوير صواريخ كهربائية أو غواصات خفية وماشابه ذلك.
اختصر مشروع منهاتن ٣٠ عام من عمر تطوير تقنية ناشئة وحولها خلال ٦ سنوات من المعمل إلى الميدان وذلك بتسخير القدرات العقلية والمهارات التقنية والقرارات الإدارية والميزانيات المليارية فأصبح بذلك مضرب المثل في الإنجاز والتصدي للتحديات الطارئة ..
توزع العمل بين معامل لوس آلاموس في نيومكسيكو التي كانت تضم مكاتب التصميم والحسابات ومعامل التجارب والنمذجة والمحاكاة بينما ضمت مواقع أوكي ريدج تينيسي أعمال التصفية لليورانبوم أما البلوتونيوم فكان في ولاية واشنطن .. لم يكن العاملون في أي من المواقع يعرفون ماذا يدور في غيره هذا إن عرفوا عن وجوده أصلاً لكن الصعوبات التقنية التي واجهت المشروع أجبرت إدارته على ممارسة نوع من النفاذية الانتقائية او selective permeability كما يطلق عليها وذلك في أضيق الحدود مما مكن عدد من العاملين من زيارة بعض المواقع بغرض تقديم الاستشارات وحل المشكلات وفي أماكن محصورة وتحت المراقبة اللصيقة .. ساعدت تلك الزيارات في حل مشاكل تصنيعية وتصميمية كبيرة نتجت عن اطلاع المصممين على التحديات التي تواجه المصنعين أو التعرف على اختلاف تصرف المواد وتفاعلاتها في المصنع عن المعمل. رغم كل تلك القيود نجح روبرت أوبنهايمر في إقناع الجنرالات بالسماح للعلماء والذين كان بعضهم من الحائزين على جوائز نوبل من تبادل نتائج أبحاثهم وتجاربهم والتحديات التي تواجههم مع الباحثين العاملين معهم. كما تمكن أوبنهايمر باطلاعه على مايدور في الشركات من تطوير لتقنيات ناشئة في مجالات مختلفة مثل الكمبيوترات في شركة آي بي إم من استخدامها لتسريع العمل فأصبح بالإمكان حل ٩ مسائل في ٣ أشهر بدلاً من حل ٣ مسائل في ٩ أشهر أي أسرع بتسعة أضعاف ماكان مخطط له.
أنجزت أعمال المشروع بالتوازي حيث كانت أعمال التصميم والاختبارات تتم في نفس الوقت الذي تبنى فيه المعامل والمصانع وتصمم الطائرات التي ستحمل القنبلة وأسلوب تركيبها عليها وسيناريوهات إلقائها وتدريب الطيارين عليها. لذلك باءت محاولة بعض العلماء بالفشل لإقناع المسؤولين بإسقاط القنبلة على منطقة نائية كإشارة تحذيرية بدل أن تسقط على أهداف مدنية بعد أن شاهدوا آثارها التدميرية الهائلة بعد تجربتها الميدانية ، فقد كانت الآلة العسكرية والسياسية والتقنية والاجتماعية بكتلتها الهائلة مندفعة بطاقة حركية متسارعة يصعب معها محاولة تعديل طفيف لاتجاهها فضلاً عن إيقافها.
اختصر مشروع منهاتن ٣٠ عام من عمر تطوير تقنية ناشئة وحولها خلال ٦ سنوات من المعمل إلى الميدان .. بتسخير القدرات العقلية والمهارات التقنية والقرارات الإدارية والميزانيات المليارية فأصبح بذلك مضرب المثل في الإنجاز والتصدي للتحديات الطارئة وجعل كثيرًا من الأصوات تتعالى لتطبيق منهجيته للتعامل مع القضايا الكبرى التي تواجه البشرية..متجاهلين في نفس الوقت تحصنه بغلاف السرية التي ربما كانت ضرورية لبقائه إلا أنها استخدمت في نفس الوقت كوسيلة لإسكات الأصوات العقلانية المطالبة بتجنب وقوع نتيجته المدمرة التي تجاوزت إزهاق الأرواح وتسميم الأرض والسماء إلى إشعال سباق تسلح دولي بائس يهدد بالقضاء على الأخضر واليابس..
وهنا يخطر ببالي سؤال .. كيف يمكن استخدام السرية التنظيمية بحكمة وفعالية والتخفيف من احتمالات وقوع بعض آثارها الكارثية؟
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات