كيف ممكن أن تؤدي محاولاتنا لصيانة وتطوير العلاقات إلى تدهورها؟

تنوعت علاقاتي الاجتماعية وتطورت خلال المراحل العمرية .. فعلاقات أصحاب الابتدائي كانت تنتهي في الغالب مع جرس الصرفة وقد يتبعها بعض الزيارات المتبادلة النادرة لبيوت الأصحاب والي كنت أحبها وأتطلع إليها لأتعرف على أشكال بيوت جديدة أو تذوق أكلات مختلفة .. في المتوسط زادت العلاقات تنوعًا ولكنها كانت تدور في فلك الأنشطة الطلابية .. مع دخول المرحلة الثانوية بدأت مرحلة الصداقات القوية "الصحوبية" وظهور شخصية الأنتيم أو الصديق المفضل البيست فريند بلغة اليوم.. بمعنى صاحب يمشي الواحد معاه دائمًا ولايكاد يفترق عنه.


يأتي مع هذه المرحلة رغبة في زيادة معرفة تفاصيل حياة الصاحب الدقيقة .. وأذكر مرة أبويا سمعني أسأل صاحبي عن ماذا تناول في طعام الغداء؟ .. فنبهني وقال ياولدي الناس مستورين.. طبعًا أكيد طنشت .. وواصلت فيما بعد بالتأكيد طرح أسئلة تتجاوز السؤال عن الطعام بمراحل .. استمرت تلك الحالة إلى المرحلة الجامعية حتى يبدو لي إنها وصلت إلى مرحلة تشبه الحصار بالأسئلة التي أحيط بها الصاحب القريب .. وبدأت في المقابل أتعرض لها وأشعر بضغطها من أطراف أخرى تعدني صديقًا مقربًا أيضًا .. فأصبحت الصحوبية كابوسًا يشعر معه الإنسان إنه في حالة استجواب دائم وقلق متواصل .. فين كنت؟ مع مين؟ ايش سويتوا؟ ليش ماكلمتوني؟ كنت راح أزود عليكم؟ أكيد انبسطتوا؟ و غيرها من أشكال الأسئلة التحقيقية بصيغة عتابية تزداد تعمقًا وتدخلاً في الخصوصية الفردية ....لا أنكر أن الحالة استمرت معي إلى مابعد المرحلة الجامعية سائلاً كنت أو مجيبًا..حتى أني بدأت أحيانًا أتهرب وابتعد تماماً تفاديًا للاضطرار إلى الالتفاف حول الحقيقة لتبرير المواقف ومحاولة إرضاء الجميع…مما أدى مرحليًا إلى جفاف وتساقط أوراق بعض أجمل العلاقات ..


توقعت بسذاجة متناهية أن تنتهي تلك الحالة بعد دخولي الحياة الزوجية وخفوت وهج الصحوبية .. ونسيت أن تلك الحياة يصحبها زيادة في العلاقات الاجتماعية المتشابكة و التوقعات المتفاوتة بسبب اختلاف العادات بين أنواع العائلات .. فمثلاً في الزيارات هناك عوائل رسمية وكل شي بعزيمة شخصية وعوائل متوسطة بشكل حبّي وبيوتهم مفتوحة وبعضهم فقط يحتاج مكالمة إخبارية .. و الخلل في إدراك ذلك والتعامل معه أوقعني في مطبات وأعاد بشكل مختلف أسئلة الماضي والعتاب المتكرر عند الغياب أو نسيان السؤال وأصبحت أرى أمام عيني كيف يمكن أن تخبو جذوة الاستمتاع بعلاقة جديدة جميلة جراء التشريه (العتاب) المستمر ونفاذ الأعذار وسماع العبارات المعهودة على شاكلة "لو مانحبكم ما نسأل عنكم" .. و "اللي مايسأل عننا مانسأل عنه" .. فيضيع الوقت الثمين هباءًفي الحديث عن الذي حصل أو ليته حصل بدلاً من الاستمتاع بالمكالمة أو الجلسة ..

نحن في حياتنا نجتهد لنكون أبناء بررة و أزواج مخلصين و آباء مسؤولين وأجداد محبين وإخوة متعاضدين وأصدقاء وفيين وموظفين مجتهدين أو أصحاب عمل طموحين إلى غير ذلك من أدوارنا المتعددة التي تشكل شبكة معقدة من العلاقات التي تتجاذبنا أطرافها وتتطلب منا توازنًا دقيقًا يشبه توازن الجاذبية الكونية


الحمدلله إن أمي وأبويا ليسوا من المدققين المعاتبين ولا ممن لايزورون الآخرين إلا بعزيمة رسمية .. ولا من منتظري المعاملة بالمثل على شاكلة عزمناهم ماعزمونا .. أو ليش ماقالوا لنا بنفسهم .. ولا يتفنون في اقتناص الهفوات أو الامتناع عن حضور المناسبات بسبب تأخر وصول الدعوات..وبيتنا مفتوح دائمًا للزيارات العفوية بتنسيق بسيط لا يتعدى مكالمة استفسارية بعيدًا عن الدعوات والعزايم الرسمية وأنا مثلهم في ذلك الطبع الذي قد لايتماشى أحيانًا مع توقعات الأغلبية المتزايدة.


مع مرور سنوات العمر وكثير من التجارب الحلوة والمرة أدركت بأن للناس خصوصياتهم وظروفهم التي لايعلم بها إلا الله .. وانشغالهم بها لايعني بالضرورة تخليهم عن واجباتهم ونسيان التواصل مع أصدقائهم والسؤال عن معارفهم وأقاربهم وصلة أرحامهم .. وتنبهت أن العلاقة مشتركة وليست من طرف واحد وإن قصر واحد فالآخر يتواصل ويسأل أو يبادر بطلب الزيارة بدلاً عن نسج قصص من الخيال والأوهام عن أسباب الانقطاع .. لتعود إلى الأسماع من جديد عبارة مواعدين فلان والا فلانة فطور أو قيلة أو هرجة عصرية أو شاهي المغربية أو عشوة أو سمرة أو نطل عليهم فقط .. وإن قوبلت تلك المبادرة بالاعتذار أو التأخر في الرد فلابأس .. فالرفض ليس نهاية العالم .. فعدم القدرة على قول لا من جميع الأطراف يضر بالعلاقة أكثر مما ينفعها ..

فنحن في حياتنا نجتهد لنكون أبناء بررة و أزواج مخلصين و آباء مسؤولين وأجداد محبين وإخوة متعاضدين وأصدقاء وفيين وموظفين مجتهدين أو أصحاب عمل طموحين إلى غير ذلك من أدوارنا المتعددة التي تشكل شبكة معقدة من العلاقات التي تتجاذبنا أطرافها وتتطلب منا توازن دقيق يشبه توازن الجاذبية الكونية التي تبقي الكواكب والأقمار والنجوم متباعدة بما يكفي لحركتها بحرية في مداراتها بثبات دون اصطدام بغيرها لتشكل هذا الفضاء الجميل.. وتعرض ذلك التوازن الدقيق للخلل قد يؤدي إلى انفلات الأجرام عن مداراتها فتحترق الكواكب وتتحطم الأقمار وتموت النجوم ..


ساعدني ذلك التوازن على استمرارية كثير من العلاقات التي تعود للمرحلة الابتدائية واستعادة عافية بعض العلاقات مع الأقارب والأصدقاء .وخلاني أقدر إن السؤال والعتاب هو بدافع الحرص الشديد والحب العميق ومن باب أن العتب صابون القلوب لتنظيفها من رواسب سوء الفهم و شوائب الزعل ..لكن الإفراط في استخدام صابون القلوب يجففها لأنه يشعر الطرف الآخر بالحصار والإحراج والاضطرار الى البحث عن الأعذار مما يؤدي في غالب الأحيان إلى فقدان التلقائية وتعاظم الجفوة وزيادة الفجوة وبالتالي كثرة العتاب والدخول في دوامة تدهور العلاقات .. وكما قال الشاعر بشار بن برد رحمه الله:


إِذا كُنتَ في كُلِّ الذُنوبِ مُعاتِباً .. صَديقَكَ لَم تَلقَ الَّذي لا تُعاتِبُه


وختامًا ومع اجتهادي على توازن علاقاتي ما استطعت إلى ذلك سبيلاً فأنا أرجو ممن يسمعني ويعلم بقصوري وغفلتي أن يسامحني ويكرمني بالمبادرة لنواصل تنمية العلاقة من جديد دون لوم أو عتب.كما يسرني سماع آراءكم وتجاربكم في التعليقات حول موضوع تأثير العتاب على جودة العلاقات.



ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات رأفت محمود زيني

تدوينات ذات صلة