القصة تحملُ خلفها معانٍ أعمق من أحداثها ، أحيانًا تلقي لنا الحياة برسائل لنبتعد عن شخصٍ ما ..
الرصاصة الأخيرة ..
أعتقدُ أنّه كانَ يومًا مُشرقًا ، تتطايرُ العصافيرُ و تُزقزقُ فرحةً كما أنَا في أولِّ هذا اليومِ ..
كانتْ سعادةُ الدُنيا بأكملِها في قلبي ، علمتُ أنّي سأُقابِلُه بعد غيابٍ طويلْ ، و شوقٍ كبير ، لم أنمْ هذه الليلة فظللتُ أرسمُ في مخيلتي كيفَ سيكونُ أولّ لقاءٍ لنا بعد طولِ غياب ، حضرتُ أجملَ الملابسْ ، و ترقبتُ الصباحَ بفارغِ الصبر ..
كنتُ أنظُرُ لملابسي و حقيبتي الأنيقة و أبتسم ! و أُرددُّ في نفسي سنذهبُ غدًا لرؤيتِه ..
كانَ السريرُ ضيقًا هذه الليلة على غيرِ العادة ، أشعُرُ أنّ العالمَ بأكملِه لا يسعنّي ..، بعد التجافي طوال الليل يمينًا و يسارًا شوقًا للغدِ ، و قد رسمتُ عدة سيناريوهات للقاءِنا ..في مخيلتي ..
استيقظتُ هذا اليومِ بغيرِ قلبٍ ، شعرتُ بقبضةِ قلبٍ غريبة جدًا ، لا تتناسب كليّا مع زقزقةِ العصافيرِ ، و معَ ما ارتسمَ في مخيلتي ..
لسببٍ ما شعرتُ بثقلٍّ غريبٍ في صدري ، و كأنّ أنفاسي لا تكتمل .. لا أستطيعُ تعبئة رئتي بأكملها ..
كلمّا اقتربَ الميعادُ كلما ازداد هذا الشعورُ !
أكملتُ زينتي ، و هممتُ بالخروجِ ، و كانَ لي عادةُ الاتصال بوالدتي دائمًا أخبرها بالخروج ، حتى و نحنُ في بلدين مختلفين ، فهاتفتُها و قالتْ لي حينها بقلبٍ أُمٍ : ( يُراودني اليومَ شعورٌ سيء يا عزيزتي .. السماءُ حزينة !) .
حقيقةً لم أهتم لكلماتها كثيرًا و لكن شعرتُ قليلًا أنّ لعلّ بعضَ هذه المشاعر يتشارك فيها البشر أمثالنا ، أو أنّ الهواءَ على سطحِ الأرضِ أصبحَ مليئًا بالكثير من غاز ثاني أكسيد الكربون ..
أخبرتُها أنّي سأرى هذا الشخصْ الذي لمْ أرهُ منذُ فترة كبيرة ..و كانتْ تعرفُ قدرهُ في قلبي ، و كم عانيت في حبّه ، فتبسمّت و قالتْ بصوتٍ يُواري اعتراضًا ما لم ألمسُه : ( لا تضعيِ الكثيرَ من الآمال على شخصٍ حاوَل في يومٍ إيذاءَك ) ..
أخبرتُها أن لا تُبالغَ كثيرًا فلم يحدث سوى القليلُ من سوءِ الفهم فقط ..
و ابتسمت ابتسامة عفويّة ..
انتقلتُ للمكانِ الذي تواعدنا عليِه ، كان قد أخبرني برقمِ الطاولة المحجوزة ، تأخرّ ساعةً ، ساعتين ..، ثلاث ساعاتٍ و أنا أنتظر ..لمّ أملّ حقيقةً ، كان أملُ لقاؤه ينسيني طول ساعات الانتظارِ و مللها
..
و لكنْ لسببٍ ما راودنّي شعورٌ مخيفٌ للحظةٍ ..
اِلتفتُ إلى شخصٍ كانَ يُناديني باسمي .. تعجبتُ بادئ الأمر كيفَ له أن يعرفَ اسمي ..
ثمَ أخبرني ، لقدْ تركَ أحدُهم رسالةً لكِ بعد ما حجز طاولةً باسمك ..
فتحتُ الرسالةَ ..
كانتْ بطريقةٍ ما لا تُشبهُ خّطه ، كانتُ مختلفةً تمامًا..، رسالةً تحذيرية !
رسالةً تُخبرُنّي ...انفدي بجلدِك من هُنا ..
أعتقُدُ أن ثقتي فيِه كانتْ أكبر من جميعِ رسائل التحذيرِ تلكَ ، فقطعتُها و ألقيتُ بها في أقربِ سلةِ مهملات ..
و عاودتُ الانتظار على الطاولة ..
و ساعةٌ أُخرى تمرّ ..
جاءَ إليّ نادل المطعم .. يستفسرُ عن سبب وجودي طوال هذه المدة و أنا لا أطلبُ شيئًا أو أُقابلُ أحدًا ..
فأخبرتُه أنا أنتظرُ شخصًا ما ..
فقالَ : (كلّ هذهِ المدة ! يا لكِ من حمقاء ) ..
ساورنّي الشكُّ قليلًا .. و ارتبتُ بعضَ الشيء و لكنّي لم أرد للحظة واحدة أن تهتزَ صورتَهُ في رأسي ، لكلّ غائبٍ عذر كما يقولون ..
لا هاتفَ يُجيبْ و لا طريقٌ للوصولِ .. فقط أنا أنتظرْ قلبًا أحببتُه يومًا .. أنتظرُه ليسَ لشيء غيرَ أنّي أحببته ..
تذكرتُ على هذهِ الطاولة الكثيرَ من الحبّ المهدرِ في سبيله ، و العديدِ من التنازلاتِ التي قدمتها من أجله ..
غيرَ أن المبرر الوحيد الكافي للتغاضي عن كل شيء هو أنّي أحببتُك و سكنتَ قلبي ..
انتظرتُه طوال هذا اليومْ .... لم يأتِ ..
تجاهلني مرةً أُخرى ... أعطيتُه فرصةً أخيرة و لم يُشعرني و كأنّها ثمينةٌ .. شعرتُ و كأنّه يعلمُ أنّي سأُعطيهِ المزيدَ منها ..
شعرتُ و كأنّهُ علمَ أنّ لهُ من قلبي ما لا أستطيع العيش بدونه ..
أخيرًا هممتُ بالخروج ....
وجدتهُ .. وجدتّه .. واقفًا بابتسامةٍ ساخرة ..يُخبرُني بعض الأعذار الواهية ..
لكنّ تلكَ الرسائل التحذيرية و الانتظارِ الطويلِ قد أطفئ شوقي و لوعتي ...
و إنّي حينَ اِلتقيتُه هممتُ بكلّ عزمي لعناقِه ، أردتُ الهرولةَ إليه..
و لكنْ نسيتُ أن اللوعةَ بيننا انطفئت ، نسيتُ أنّنا لمْ يعدْ بيننا طريقٌ للعناقِ...
لا أدرِ كيفَ أصبحنا غرباء .. بعدَ السنينَ .. لا أدرِ لمَ أشعُرُ عند سماعِ صوتِكَ بالحنينْ ..
و لكنّ عندمَا التقيتُك ، و قفتُ أمامك وددتُ لو أُعانقُكَ بشدةِ و لسببٍ ما شعرتُ أنّه لا يمكنني الاقتراب الآن .. أشعُرُ و كأنّ أميالًا تفصلني عنكَ و أنتَ هُنا أمام عيني ..
أمسكتُ بيديك .. لمْ أشعُرُ .. لا أستطيعُ الإحساس بوجودك ..
لا تتحدث أرجوكَ ، صوتُكَ لا يترك ليِ مجالًا للشكِّ أنّ هذا أنتَ غيرَ أنّي لا أراك ..
اقتربتُ قليلًا بعضَ الشيء منه .. أُجاهدُ نفسي على حبسِ الدموعِ ..
تمنيتُ لوُ أستطيعُ الركضَ إليكَ , لقد عبرتُ المحيطاتِ من أجلكِ ،غير أنّي أشعُرُ الآن أن أثقلَ ما يكون هي تلكَ الأمتار التي بيننا ..
لم أعد أعي هل أنا أُحبُّك أمّ أنّي مريضةٌ بكَ..
فلم أعدُّ أُريدُ رؤيتك بعدَ الآن غيرَ أنّي مشتاقةٌ إليك ...
عندمَا أحببتُكَ أخبرتُكَ بكلِّ شغفِ العالمْ , سأفعلُ المستحيلَ من أجلِك .. لمْ أكن أعلم أن المستحيلَ هو أنّ لا أُحبُّك ..
عزيزي أحببتُكَ فجعلتُك ليِ وطنًا سرمدي ، لا نُزلا أو غربة مؤقتة ..و لكن غفلتُ أنّ الأوطان أيضًا تسلب ..
كنتُ ألتمسُ لكَ جميعَ أعذارِ الحبّ..
الآن لا أراكَ سوى قاتلِ ، يُمسكُ بمسدسهِ بعدْ أن أفرغ جميعَ طلقاتِهِ .. تلكَ التي بيديّ جمعتها طوال السنين الماضية ، و الآن تضغطُ على الزنادِ لترميني بآخر رصاصةٍ فيهِ ..
لقدْ ملأتني بالرصاص ، و لكنّ ، و لكنْ تلكَ كانتَ آخرَ رصاصةً أصبتَ بها قلبي !
فتلاشى قلبي و تلاشيتَ أنت معه أيضًا ...
التعليقات
بارك الله فيك
مبدعة جدا❤️
طريقة كتابتك جميله جدا❤️