مشاعرٌ بتوقيتِ قلبي ، على إذاعتهِ المحلية ، لأيامٍ من ارتداءِ معطفٍ أبيض و أصبحَ الجميعُ يلقبونني (دكتورة)..

صباح الخيرِ ، صباحِ الخيرِ بتوقيت "مُستشفى الأطفال"..


شهرٌ على وشكِ المرور .. ، و قلبّي لمّ تمرّّ عليه الأيامُ مرورَ الكرامِ ..

لا أُخفيكمْ سرًّا ، كم تساقطت دمعاتٌ هاربةَ خفيّة ، تدعيّ الصمود ..

مشاعرّي أعظم من أن تُنسجَ في سطورْ ، هُناكَ بعضُ المشاعرِ لا تُحكى ، و لكنْ فقط تعرفُ الشعورَ حينَ تعيشهُ و تلمسُ الألم بيديك ..

أذكرُ أولّ يومٍ خطوتُ فيه ذلكَ الباب ، لمْ أستطعِ جهادَ نفسي للمرورِ أكثرْ بينَ أروقتها ..

مع كلّ طرقة بابٍ على مريضٍ .. كانت تُفتحْ قصةٌ مختلفة و فصلًا جديدًا في رواية كبيرة عنوانها ..مكتوبٌ بالخطّ العريضِ على جدارِ هذا المبنى .."مشفى الأطفال" !

مع كلّ طرقةِ بابٍ لم تتركنّي نفسي ، كنتُ أردد في نفسي ، أسألُ اللهَ أن يرفقَ بقلبي و لا يؤلمهُ برؤيةِ طفلٍ هامدٍ على السرير ..

في بادئ الأمرِ وجلتُ أنّ أُمسكَ بأيديهم المريضة ، و أن أُذي ما بقي منهم و ما منْ عافيتهم .

غرفةً تلوَ الأُخرى …سطرًا يتلو سطر ٍ …

دخلتُ غرفةً خطأً لطفلٍ صغيرٍ فقد شعرهُ متأثرًا بأدوية الكيماوي ، نائمًا بلا حراكٍ ، فقط يتنفس .. كانت والدتُه تبكي و الدموع في عينيها ..

لمّ أكبح نفسي لسؤالها لمّ تبكين !

و أنا أرى الجواب بأمّ عيني .. تركتها هذا اليوم و أغلقتُ الباب عليها بعدما حاولتُ ببعضِ الكلماتِ تهدئتها .. أغلقتُ الباب و لكنّ فُتحَ في قلبي جرحٌ لم يندمل بعد .. انتابِ ضميري جائحةٌ من الندم .. لمَ تركتها بين جدرانِ تلك الغرفة وحيدة .. و في نفسِ الوقتِ لا أدري ما كان يجبُ عليّ فعلهُ ..


حينها تلمّستُ الحكمة من وجودي هُنا !

أشعُرُ بطريقةٍ ما أنّ لوجودي في هذا المكان معنى ..

حينَ سألتني والدةُ طفلٍ ما عن حالةِ ولدها .. حاولتُ أن أرفقَ بها و بطفلها .. و جدتها بقلبٍ وجلّ و ابتسامةً ارتسمتْ على شفتيها .. تخبرني بلهجةٍ طيبة بسيطةٍ ..( يجعل وشك حلو علينا يا رب ، دخلتك عليّا كده تشرح القلب ، ربنا يريح قلبك زي ما دخلتك بتريحنّي )!

هزّت صلواتُها قلبي !

لم أتمالك نفسي ..

لهذا أنا هنّا إذًا ؟

حتى دخلتُ على طفلٍ آخرْ … نالَ المعطف الأبيض الذي أرتديه إعجابهُ .. و حين سألته عن رغبته في الكبرِ .. أخبرنّي أنّه يريدُ أن يكونَ مثلي ..

و في منتصفِ فحصي البسيطِ لهُ ، بكلّ عفويةً و تلقائية أبهجت أسارير قلبي ، أخبرني :

( دكتورة أنا معايا بيتزا ، تأخدي حتة ؟) !

كانتْ عفويتُه و بساطته و ابتسامته أذهبتْ عنّي عناءَ اليومِ .. و من ثمّ دعاءِ والدتِه المُتوالي بكلّ قلبٍ محبّ ..

عندما قابلته صدفةً بعد عدة أيام في مصعدِ المشفى ، لمّ و لن أنسَ لهفتُه للسلامِ عليّ !

شعرتُ بنغزةٍ في قلبّي .. نغزةُ الوصولِ لحكمةٍ ما ..!

الكثيرُ من الدعواتِ بعدَ كلّ طرقةِ باب بدأتْ تُسلّي نفسي و تربط على قلبي في هذا المكان .

الكثيرُ من الأطفالِ يخافون المعاطفَ البيضاءُ ، حاولتُ تجاوزَ هذا الأمر مع الكثيرِ منهم و يبقى للاسف العديد منهم يهابونّي بعد كل أشكالِ الرجاء و التوّسل إليهم …

كانت إحداهم طفلةً في عمر الخامسة ، تهابُني ، فقط ترى ظلّي تبدأ بالبكاءِ … و كانّ الإنجازُ الوحيدُ الذي ملأ قلبي بسعادةٍ تغمره حينَ استطعتُ جعلها تلمسُ الآمانَ في وجودي … و تنتظرُه .. ثمّ لا تلبث تراني حتى تضحك ملئ ثغرها و تحضّر ألعابها و تُضايفني بكوبِ شايٍ من لعبتها ..

و على صعيدٍ آخرْ هُناكَ وجهٌ آخرْ لهذا المكان ، وجهٌ أغبرْ حزينٌ ، تقف مكتوف الأيدي أمامه ..

"رعايةُ الأطفال"..

مكانٌ بائسٌ تعيس … رائحته تحملُ انقباضة القلب معها ..

طفلةٌ صغيرة بعمر الشهور .. أسلاكٌ ، خراطيم .. في كلّ مكانٍ .. بلا أم تحتضنها وحيدةً في السرير ..لا تستطيعُ الحراكَ ، تأنّ أنينَ الألم و تبكي بكاءً مرير ، استطعتُ فهم بكائها و أنها تطلبُ يدًّا تربدُ على رأسها و قصةً قبل النوم كأي طفلٍ في هذا العالم .

تركها الممرضون ، تبكي هناك في سرير فسيحٌ عليها ، اقتربتُ بخطواتٍ متباطئة .. ربدّتُ عليها قليلًا و مسحتُ على رأسها ، حتى هدأ بكائُها .. و كأنها كانتْ تحتاجُ لشخصٍ ما بجانبها .. لم أتمالك نفسي من الجلوسِ بجانبها و المسح على رأسها و يديها .. هدأت .. لم أشعر سوى بأحدهم يناديني بصوتٍ يؤنبني .. ( مش وقته ) !

و لا أعلم الحقيقة إن لم يكن هذا الوقتُ الذي يُعطي فيه الإنسانُ. فمتى ؟

تركتها ، و لمجرد أن تركتها تعالى بُكائها .. انفطرّ. قلبي لها .. أعتذرُ لكِ يا صغيرتي ، أعتذرُ لكِ من كل قلبي ..

في نهايةِ هذه الأيام .. شعرت نوعًا ما ، لمّ قد يضعني اللهُ في مكانٍ كهذا .. ليسَ جاه أو مال أو سلطان ..

من العبادة أن تفهم حكمته سبحانه من خلقك و وضعك في مكانٍ ما ..

أتمنّى من كلّ قلبي ، أن يشفعوا لي هؤلاء الأطفال ..

أن يحجبوا عنّي غضب الله ..

لا يدخلّ الجنة أحدٌ بعمله .. و يعلمُ الله تقصيري !

و لكن لعلهم بابي اليوم للجنة ..

لعلّهم يشفعوا لي عند ربي …لعلّهم طوقُ النجاة !❤️





مريم طه

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات مريم طه

تدوينات ذات صلة