كَيفَ يكبُر المَرء فَيسمَعَ بأذن قَلبِه، يتَطوّر فيَصير لعينيه حاسّة السّمع !
كُنتُ فيما مَضى أستَلِذُّ بالدَّرس، أعشَق سِباقَ الطَباشير عَلى لوحِنا الأخضَر، أفتَخِرُ بأنّ دَفتَريَ الأنيق كَسماءٍ صافيَة تَعُجُّ بِنجوم التَميّز؛ رُغمَ هذهِ الأناقَة والرّتابَة إلا أنّ أستاذي كانَ يَنعَتني بِقلّة الأدَب حينَ أبتَسِم بغيرِ سَبَب، وأصمِت حينَ يَأمُرني وهُو يُلوّح بعصاه أن " ضَحكّنا مَعَك !! " غَيرَ أنّي لَحظَتها أفضّل قِلّة الأدَب عَلى الجُنون؛ كَيف أقول لَه أن عَصاه أسرّت لي سِرّاً، وأن مِمحاة اللوح تُصدِرُ صَوتَ أنينٍ وإطناب أسمَعه بِعُمق، كما أنّي أظُنّ أنّه لَن يُدرِكَ النوتَة الموسيقيّة التي شَكّلها صَريرُ البابِ وهَزيزُ الريح قَبلَ أن يَتثاءَب ساحِباً كُلّ الهَواءِ " لِكَرشَه الضَخم " الذي دَفَعني للضَحِكِ عُنوَة .’!
هَكذا أراد أن يَنتَقِمَ لِكبريائِه قائِلا: " البَسمَةُ تُفسِدُ وَضوءَ الحِصّة "، فَأجبتُه قَبلَ أن أغلِقَ البابَ خَلفي: " والحِصّة لغيرِ القِبلَة باطِلَة " ..
خَرجتُ غيرَ مُكتَرثٍ بِما سَمعت، ولا آبِهٍ بِرنّةِ أُذني إذ يَستَمرُّ بالاستِغابَة حَيثُ أنّ إنكِسار الظِلّ في المَمَر يَسحَر كُلّ رائِي، أسيرُ بينَ القاعات أستَرِقُ النَظَر مِن الزجاج الذي يَتَوَسّط أبوابَها المُلَبّدَة بالغُبار المُتراكِم مَع تَعاقُب الأجيال !
كُل شَيء راتِب، الدُروس نُسخٌ مُكرَّرَة، أستاذ جَهوَريّ الصَوت يَتكَلّم، هَيئات جامِدَة عَلى مَقاعِدَ خَشَبيّة، أصوات الطَباشير والأقلام، طَقطَقَة الأيادي المَرفوعَة، ألَم القَراطيس والورق، لا شَيءَ لافِت إلا تِلكَ القاعَة الزرقاء التي رُكنَت في زاويَةَ المَدرَسَة بينَ الإدارَة والمَكتَبَة، مُعَلّمَةٌ أنيقَة وخَمسُ طالِباتٍ وطالِب، يالَه مِن صَفٍ نَموذَجيّ، تَستَنِدُ فيه المُعلّمَة إلى طَرفِ المَقعَد ويَصطَفّ الطُلّاب كَفِرقَة موسيقيّة عالَميّةٍ عَلى المَسرَح، يَتَحركون بِموسيقى لا تُسمَع، يَتَلَقوّن تَعليمات المُدَرِّسَة بلا كَلام، يالَ ذاك الطِفلُ اللبيب الذي فَهم الإشارة واستَدار ثُمّ جَلَس، تَحَولَقَت حولَه الفَتيات، بَدَأوا بالحَركَة كأمواجِ البَحر، كَوَردَةٍ شَربِتَ خَمرَ الجَمالِ فأزهَرَت.
أبهَرني هذا الجَمال، فَتحتُ البابَ بِلا صَرير، مَشيت بلا خُطوات كأنّي مَحمولٌ عَلى الريح، ارتَفَعَ صوتُ الصَمتِ فيّ؛ سَمعتُ عينَ المُعلِمَة تقولُ حينَ غَمزَتني أن أخفِض صَوتَ صَمتِك، سَكِرتُ فأفاقَني صوتُ التَصفيق الجَماعي، والضَجيج الذي مَلأ المَكان إذ تَراقَصَت حُروف المُعَلّمَة قَبل أن تَتَشَكّل بقولها: " يا بُنَي اسمَع صَوتَ الصَمت حَولَك ".
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
شُكرًا لكِ إيمان، مُمتن لمروركُم ^^
ويلا روعة اللغه العربيه ويلا روعة متحدثيها