رواية نفسية اجتماعية رومانسية سترى فيها من أصبح ناجيا من الماضي، ونكبات الدهر، حتى قابل من علمته أن المقاومة أعظم من مجرد النجاة.
«عِنْدَمَا تَتَخَطَّى مَرْحَلَةً صَعْبَةً مِنْ حَيَاتِكَ أَكْمِلِ الحَيَاةَ كَنَاجٍ وَلَيْسَ كَضَحِيَّةٍ!». جَلالُ الدِّينِ الرُّومِيّ
مقدمة
دَقَّاتُ قَلْبِ المَرْءِ قَائِلَةٌ لَهُ إنَّ الحَيَاةَ دَقائِقٌ وَثَوَانِي
هكذا صديقي، قارئ السطور، قالت لي دقات قلبي مرارًا و تكرارًا، فأيقنت أن الدقائق والثواني صارت شلالًا هائجًا، يركض فيرتطم بالصخور، غير عابئ بقلبي الذي سيتحطم، وعمري المفقود بين الصخور، و عندما أيقنَت رُوحي الخطر، تملكتني شجاعةُ مَن لم يعُد يبالي، و قفزتُ من شلالي، يغلب ظنِّي أنني لستُ ناجيًا، و ما يضر مثلي و لم يعُد هناك ما يخسر، و قد صار كل شيء خلفي.
لم أكن أعلم أن قفزتي هي قبلة الحياة، التي حوَّلت الشلال الهائج، إلى جدول يشق طريقه في قلبي، ليعيد الحياة لكل شيء حولي، حقًّا لا زلت بقاربي الصغير، أجدف بكلتا يدي، لأصل إلى شاطئي، حيث القرية الهادئة، والخضرة الممتدة، والكوخ الخشبي الصغير، الذي ستولد به الحياة، ولكنني أتيقن الوصول.
منذ ذلك اليوم، وحينما نظرت إلى السماء، و تبددت الغيوم، ليبقى القمر تعانقه الورود، أصبح لدقات قلبي معنى جديد، لا يرهقني بحسرات الماضي، أو لهف المستقبل.
يا صديقي، يومًا ما فقدتُ الكثير ووجدتُ الكتابة، بدأتُ طريقي و صدر كتابي الأول «مدينتنا غير الفاضلة.. ارحلي»، وبعد سنوات عدة ومحاولات مستمرة، حققت خلالها بعض النجاحات متمثلة في المقالات والقصص القصيرة، صدر كتابي الثاني رواية «يسار».
وها أنا اليوم بصدد إصدار كتابي الثالث رواية «ناجي وهن»، أركض نحو الشمس، لأمسك بها بين يدي، وأهديها لقلبي تبدد عتمته؛ لأنه آمن يومًا بالنور فوجده.
الإهداء
إلى السر القابع بنفسي، بطل الرواية التي لم تُكتب، فارس الأحلام التي تتحقق، إلى الكلمات والنغمات والشهقات واللفتات، إلى الكتابة التي أوجدَت البسمة بعد أن طال هجرُها لشفاهي.
إليكم يا رفاق الدرب، يا من توكأت عليكم حتى صرنا هنا.
إلى أمي و أخوتي وروح أبي، إلى ابنة روحي فطيمة، إلى شركاء التجربة د. أحمد زرزور، د. أحمد عبد اللطيف، أ. أحمد سليم، أ. أحمد شرف، أ. مصطفى زوام، د. إبراهيم عودة، أ. عماد السيد، وصديقتي الحبيبة سلمى نبيل، إلى «منصة كتبنا» و فريقها، إلى الأيام التي أنتظرها وتنتظرني.
(الفصل الأول)
جاهدت الفتاة، بائعة محل الحلويات الشهير، تحاول رسم تلك الابتسامة على شفتيها، نقَّلت عينيها بين الجالسين، بينما تمرر خصلات شعرها بين أصابعها المرتعشة، كردَّة فعلٍ بدتْ كلازمة عصبية، وحين حاول أحدهم القبض على يدها بينما تناوله الحلوى، لم تستطع سوى أن تقاوم يدَه، وما إن رحل حتى عادت للازمتها.
في أحد أركان المحل جلس شاب ثلاثينيّ متوسط الطول، يبدو ممتلئًا قليلًا، ولكنَّ جسمه متناسق فتيّ، بالنظر إلى صدره العريض وكتفيه المرتفعين يتبيَّن أنه يواظب على الذهاب للـ ( جيم )، شعره يخفّ عند وسط رأسه فيبدو أصلعَ لو تركه بدون حلاقة؛ لذلك تجده دائمًا حليق الرأس، وجهه الأبيض يتحول إلى الحمرة مع ارتفاع الحرارة، ويزيد توهجه كلما لامست أشعة الشمس وجهه، وسامته ملحوظة وسماحته تشعرك أنك أمامَ أطيب شخص بالعالم، سترة بذلته أنيقة، لكنه يرتديها فوقَ بنطالٍ من الـ ( جينز ).
لم تتنبه الفتاة لمراقبته إِيَّاهَا،فقد انتابتها دوامةٌ من مشاعر التوتر والقلق والرفض التي تنتابها يوميًّا، مرَّ خلْفها زميلها فلامس ثنايا جسدها الخلفية، وبدا كمن يمارس لعبة فعاود بسرعة يمرُّ أمامَها، ورغم تجنُّبها له ورغم محاولتها لتدارُك الموقف فقد لامَس جسدها مرَّة أخرى، لتقفَ تعبث بخصلات شعرها بعنف، لا تعرف ماذا عليها أن تفعل! هل تصرخ وتصفع من يقترب منها بكلتا يديها؟ أم تترك العمل وترحل فورًا لتبحث عن عمل آخرَ يحدث فيه نفس الأمر؟ أم تتكور على نفسها كوضعية جنين في رحم أمه وتُلقي بنفسها في أحد الأركان، وتظل تبكي حتى تقوم الساعة؟ أم تهدأ وتذهب لدورة المياه تفرغ غضبها وانفعالاتها ودموعها؟
نعم، لقد فعلتْها كثيرًا حتى عنَّفها مديرها، واتهمها أنها تهرب من العمل وتقضي أغلب اليوم بدورة المياه، فلا تجدُ مهربًا غير شعرها المسكين، ولم تنتبه حتى وجدت في مواجهتها فجأة ذلك الذي يراقبها، طلب منها نوعًا من الحلوى، ذهبتْ لإحضاره، وحين عادتْ لم تجِد الزبونَ ووجدت مظروفًا كُتب عليه «ملعون أبو الفقر يا غالية»، فتحته ووجدت به مائتي جنيه.
خرج ناجي من المحل مسرعًا، وكأنه يخشى أن تستوقفه الفتاة وتردَّ المظروف، سار في شارع هادئ تتناثر الأشجار الضخمة على جانبيه، لدرجة تجعل الشارع يبدو مغطًّى بمظلة خضراءَ، لا تُسمع فيه إلا زقزقة عصافير، ولعلَّ هذا ما دفعه أن يتَّخذ من ذلك الشارع مقرًّا لعيادته النفسية، فبعْد عدة أمتار دخَل عقارًا وُضعت على شرفة طابقه الأول لافتةٌ كُتب عليها «الدكتور ناجي الفيومي».
دخل إلى مكتبه في* تواضع وهدوء وسط ( العملاء ) - كما يسمِّيهم؛ لأنه لا يحب كلمة مرضى- يمرّ بهدوء، لا ينتظر تملقًا من أحد، بينما لا يتوقف هاتفه عن الرّن، ولا يتوقف هو عن إسكاته في ضِيق.
دخلتْ إليه السكرتيرة تخبره بقائمة المنتظرين وترتيبهم، كانت البداية مع يوسف، شابٌّ في منتصف العشرينات، قال لناجي:
«أتمنى أن يأتيَ يا دكتور عامٌ جديد دونَ تدخينٍ وأفلام إباحية وعادة سرِّيَّة، عامٌ جديد دونَ ( فيس بوك ) ومعاركه السياسية والدينية، عامٌ جديد دون بِطالة وتذمُّر من الأوضاع، عامٌ حقيقيٌّ أحظى فيه بوظيفة وحياة حقيقية - لا افتراضية - رُفقة زوجةٍ وأولاد، هل أطلب كثيرًا؟!»
«لا، أنت لا تطلُب كثيرًا، بل هذه أبسَط حقوقك، فقط أنا لا أريد للغضب أن يفتِك بك، فانظرْ لنصف كُوبك الملآن؛ أنت في مقتبل عمرك، صحَّتك جيدة، تعيش مع والدَيك وإخوتك - حفظهم الله - وتخرَّجتَ من كلية التجارة.
يا صديقي لديك الفرصة والوقت فما زلتَ صغيرًا، كلامٌ ممل ومكرر، أعرف؛ فهذه هي الحياة تكرار بائس علينا تقبُّله كأننا نشاهد حياتنا من بعيد لا نعيشها وننغمس فيها، لكنَّني أريدك دائما ممتنًا للحياة، فقدْ نجوتَ وكان من الممكن أن تكون مجرد ضحية! طالما أنَّك هنا تحكي وتبحث عن حلٍّ ولم تستسلم بعدُ فقدْ نجوتَ.»
ردَّ يوسف في امتنانٍ حقيقيٍّ:
«بالطبع في ظروفي هذه آخر شيء أفكر به الذهاب لطبيبٍ نفسيّ، رغم ذلك أنا هنا؛ لأنك تطوعتَ بتلقِّي المشكلات على صفحتك بـ ( فيس بوك )، ثم إنك دعوتني للمجيء إلى هنا وتقابَلنا كأننا مجرد صديقين، أو بمعنًى أدقّ: أخٌ أكبر وأخوه، وهذا دورك بحياتي...»
قاطعه ناجي:
«هذا دور كل مَن نجا، أن يعاونَ الباقين ليتحولوا من ضحايا لناجين.»
تلك الكلمات دستوره في الحياة.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات