"إذا كان حتما تعاقب الأجيال فإنه واجب عليهم أن يحافظوا على تراث أمتهم وهويتها الثقافية"



وما كل شعب من شعوب العالم، صغُر أو كبُر، إلا وله الهوية الثقافية التي يتميز بها عن الشعوب الأخرى. ولذلك فالهوية الثقافية تمثل البصمة للوطن تماما كالبصمة البيولوجية للإنسان بأنواعها مثل بصمة الأصابع أو العين أو البصمة الوراثية.


والبصمة البيولوجية مهمة للغاية لأنها هي التي تحافظ على خصوصية كل فرد دون أن تقلل من مكانة الآخرين. وما البصمة البيولوجية أيًا كان نوعها إلا مجموعة من البروتينات التي توجد على سطح الخلية وتكونها مجموعة من الجينات بحيث تمثل أعلاما ترفرف على خلية كل انسان وتميزه عن الآخرين. وبالطبع لا ينفي ذلك وجود سمات بيولوجية مشتركة بين كل البشر. وخير مثال لأهمية البصمة البيولوجية هو الرفض السريع للخلايا والأنسجة والأعضاء عندما تُنقل من إنسان لآخر إلا إذا كانت درجة القرابة عالية جدا وفي وجود أدوية تثبط الجهاز المناعي تماما حتى لا يستطيع رفض الجسم الغريب المزروع.


وكما للبصمة البيولوجية من أهمية في إعطاء كل شخص هويته البيولوجية التي تحفظ له خصوصيته،

فكذلك الهوية الثقافية فهي تحفظ للوطن سماته التي اكتسبها في تاريخه من أدب وفنون وعادات، وتقاليد، ودين، ولغة. وبجانب السمات الإنسانية المشتركة التي تشترك فيها كل الشعوب، فالهوية الثقافية لكل شعب تعطي له نكهته ورائحته الخاصة وطعمه الذي يُعرف ويُميز به بين باقي الشعوب. ولذلك، فكل دولة من دول العالم عبر التاريخ لا تفرط في هويتها الثقافية تماما كحرصها على عدم التفريط في شبر واحد من أراضيها مهما كلفها ذلك.


وقد خُلق الجهاز المناعي في الإنسان، وحتى الحيوان، لكي يحافظ على هوية صاحبه، حتى لو فقد نصف جنوده. والهوية هنا تعني شيئين هما عدم السماح بدخول أي جسم غريب يغير من هوية الجسم ولو بنسبة ضئيلة. ولو حدث ودخل جسم غريب، فإن الخلايا المناعية لا يهدأ لها بال ولا تنام قبل أن تقضي عليه. ولو حدث لا قدر الله وتغلب الجسم الغريب علي الجيش المناعي، تكون النتيجة الحتمية هو تغيير نسبي في هوية الجسم وظهور أعراض مرضية تتطلب علاج فوري والذي قد يصبح بلا تأثير في حالة استفحال تغيير الهوية وانتشارها في الجسم.


ولكي يقوم الجهاز المناعي بوظيفته في الحفاظ على الهوية البيولوجية بمهنية عالية وبمهارة وحنكة، يتم تدريب خلاياه في معسكرات محددة ولفترات محددة، ولا تخرج الخلايا من هذه المعسكرات إلا بعد أن تكون قد تعلمت وتدربت علي وظيفتين أساسيتين. أولهما التعرف على كل خلايا الجسم ومنتجاتها كأصدقاء كهوية شخصية للوطن الكبير وهو الجسم الذي تعيش فيه. ثانيهما أن كل يوجد في الجسم ولا تنطبق عليه الهوية البيولوجية للجسم فهو عدو ويجب التعامل معه فورا. ويتم هذه التعامل بخطة دفاع مُحكمة وبأدوار مرتبة ومنظمة لكل خلية بهدف التخلص من هذا غريب الهوية أولا بأول حتى لا يتسبب في تغيير الهوية البيولوجية للجسم.


وإن حدث وفشلت أحد أنواع الخلايا المناعية في تعليمها وتدريبها في معسكرات التدريب فيحكم عليها بالإعدام فورا حتى لا تخرج وهي غير قادرة على التمييز بين هوية خلايا الجسم الذي تعيش فيه وهوية الأجسام الغريبة. ولكن إذا ما حدث واستطاعت أحد هذه الخلايا المناعية الفاشلة أن تتحايل بطريقة أو بـأخري أن تنجح في الخروج من هذه المعسكرات وتتسلل بخبث وتخرجت لتجول وترتع في الجسم. وهناك تتعامل مع الهوية البيولوجية للجسم على أنها هوية غريبة فتنقلب عليها وتهاجمها وتدمرها مسببة ما يسمي الأمراض المناعة الذاتية.


ومن الأمثلة الشائعة للأنسجة التي تدمرها هذه الخلايا الفاشلة الغضاريف والعظام كما في مرض التهاب المفاصل، وخلايا البنكرياس المفرزة للأنسولين كما في مرض داء السكري من النوع الأول، أو الأحماض النووية كما في مرض الذئبة الحمراء، أو الكبد كما في التهاب الكبد، أو أنسجة الغدة الدرقية كما في خلل الغدة الدرقية، أو مهاجمة أنسجة القولون وتدميرها كما في مرض التهاب القولون وتطوره إلى مرض كرون الذي يصبح القولون فيه ممزقًا.


وقد يحدث أيضا نفس السيناريو من الهجوم والتدمير من قبل الخلايا المناعية العادية، ولكن تحت ظروف حدوث التهابات أو عدوي مزمنة شديدة (متكررة ومستمرة) بلا علاج. ففي هذه الحالة تتغير الهوية البيولوجية لبعض الأنسجة بسب الالتهابات وبالتالي. وهنا تري الخلايا المناعية العادية هذه الأنسجة المشوهة كأنها غريبة فتهاجمها وتدمرها. وبالطبع إن لم تُعالَج أعراض هذه الأمراض وغيرها في الوقت المناسب والكيفية المناسبة، فسوف يؤدي ذلك إلى ضعف عام بالجسم نتيجة الخلل الوظيفي الذي يحدث في هذه الأنسجة الأمر الذي قد يؤدي في معظم الحالات إلى تغيير أكثر خطرا في الهوية البيولوجية للجسم والذي بدوره يؤدي حتما إلى حدوث سرطان ويصير الجسم في حالة يُرثي لها من الضعف والخلل والألم والمعاناة ويصبح تحت رحمة العلاج الكيماوي والاشعاعي الذي يدمر كلا من الخلايا المريضة والخلايا السليمة.


فإذا كان الأمر كذلك في الحفاظ على الهوية البيولوجية للجسم والذي يمثل الوطن الكبير لكل خلايا الجسم، وإذا كان خطورة وعواقب حدوث أي خلل أو تشوه في الهوية البيولوجية لأي سبب من الأسباب بهذه الأهمية واعتباره أمن قومي للجسم، فكذلك الحال لو حدث تغير في الهوية الثقافية لشعب ما في وطن ما ولسبب ما. مؤكد سوف يؤول حال الوطن إلى ما آلت إليه حالة الجسم في حالة تشويه هويته البيولوجية سواء من الداخل بسبب خلايا الجسم نفسها أو من الخارج بسبب الأعداء. فكل وطن من الأوطان له أصدقاء وأعداء سواء من داخله أو خارجه ولذلك لابد لكل وطن من الأوطان من نقاط تفتيش تكون مهمتها الرئيسية هي الكشف عن أي تغير في الهوية الثقافية وما يصحبه من تغير مَرَضي في السمات الشخصية لعموم الوطن.


ولكي يضمن الجسم استقرار هويته البيولوجية، فقد أودع الله فيه نقاط تفتيش بالإضافة إلى الجهاز المناعي نفسه الذي يمثل أكبر جهاز لنقاط التفتيش بالجسم. وتوجد نقاط التفتيش هذه في جينات وسيتوبلازم الخلية وغشاء الخلية حتى تضمن مراقبة الجسم كله من الداخل من أخمص القدم حتى منبت الشعر وفي داخل الخلية وخارجها لتقوم بالتبليغ عن أي تغيير في الهوية فور اكتشافه. فعلي مستوي الخلية توجد نقاط تفتيش في النواة لكي تضمن عمل طبيعي للجينات من خلال تصحيح أي أخطاء أول بأول قبل تحويل الجينات إلى بروتينات نستعملها في حياتنا اليومية. وعلي مستوي انقسام الخلية فقد أودع الله جزيئات معينة تنظم سرعة وتوقيت الانقسام الخلوي بحيث يظل دائما في المستوي الطبيعي المعروف لكل خلية حسب وظيفتها. أما الخلايا المناعية نفسها فهي منتشرة في كل مكان في الجسم لتقوم بـالتعامل الفوري مع أي جسم غريب والتخلص منه أولا بأول.


ولأننا نعيش العالم المفتوح تحت شعار العولمة بكل ما تعنيه من علم ومعرفة وآداب وفنون وتكنولوجيا، والتي نسميها في المجمل القوي الناعمة، فمن الطبيعي والمتوقع أن يستخدم القوي المنافسة والأعداء هذه القوي الناعمة المؤثرة في محاربة أعدائها عن طريق تغيير الهوية الثقافية لشعوب أعدائها ببطء، ولكن بطريقة ممنهجة قصيرة وطويلة الأمد. وقد حدث هذا بالفعل وعلي معظم الأصعدة الثقافية من خلال انتاج أفلام موجه لقبول وتعميم فكرة الندية والتنمر بين أطياف المجتمع بوجه عامل وبين الجنسين علي وجه الخصوص، والمثلية الجنسية، ومظاهر العنف والإجرام، والتذمر وعدم الرضا بالواقع، والاستهلاك الغير مقنن، وخلخلة الانتماء للأسرة والوطن والانتماء للذات، وفوق كل ذلك المجاهرة بـالإباحية, وعلانية الإلحاد بدعوي الحرية وغيرها من الصفات التي أصبحنا نراها ونعيشها في مجتمعاتنا العربية والإسلامية علي عكس موروثاتنا وعادتنا وتقاليدنا الثقافية وما تدعوا اليه الأديان السماوية الثلاث.


وقد استهدفت حملة تغيير الهوية الثقافية هذه بسهولة بالغة فئة الأطفال والشباب من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والاتصال الالكتروني ومن خلال الألعاب الأطفال ومن خلال الفن الممنهج، أدي إلى طفرة هائلة في الهوية الثقافية وتشويه سمات الشخصية المصرية والعربية والإسلامية بدرجات كبيرة لا يستطيع الأفراد ولا الحكومات أن انكارها. وبالطبع لم يحدث هذا التشوه بين عشية وضحاها، بل من خلال تراكمات عبر السنين وإن كان قد زادت حطها في السنوات الحديثة بسبب الفضاء المفتوح علي مصراعيه لجميع وسائل التواصل الاجتماعي.


وما زاد من سرعة هذا التشوه في الهوية الثقافية هو الميول الجارف للأطفال والشباب لكل ما هو جديد من ألعاب وأفلام ومقاطع مسموعة ومرئية على وسائل التواصل والتي لها القدرة على الترجمة الفورية للمحتوي وبالتالي رفع حاجز اللغة عند المتلقي. وساعد على ذلك أيضا غياب نقاط التفتيش من قبل المؤسسات على أي تغيير يطرأ على الهوية الوطنية كما يفعل الجهاز المناعية للحفاظ على الهوية البيولوجية. وساعد على ذلك أيضا انشغال الأباء بأسباب العيش من ناحية وانخراط الكثير منهم أيضا في التأثر بالجديد بلا وعي أو تفكير. وكان أكبر الأسباب وراء سرعة تشوه الهوية الثقافية غياب دور المدرسة ودور العبادة ودور الشيوخ الذي انحسر على الناحية الفقهية بعيدا عن القضايا التنويرية.


عندما ننظر إلى الجهاز المناعي، وهو من خلقه الله بقدر، نجده قد استخدم التعليم والتدريب والمراقبة من خلال نقاط التفتيش، ثم التصحيح، ثم الدفاع والهجوم والحرب ضد أي سبب قد يؤدي إلى حدوث تشويه في الهوية البيولوجية للوطن الصغير وهو النسيج أو الوطن الكبير وهو الجسم بأعضائه كلها. فإذا كان ذلك هو قانون الله في خلقنا، فلماذا لا نطيع الله ونمتثل بقوانينه البيولوجية ونحاكي الجهاز المناعي وقوانينه لكي نحافظ على هويتنا الثقافية.


وأتذكر عندما زرت اليابان للدراسة في المرة الثانية بعد عامين ونصف من زيارتي الأولي (١٩٩٥) لدراسة الدكتوراه، عبرت عن قلقي الشديد لأحد أصدقائي بأن الشباب الياباني قد تغير كثيرا في السنوات الماضية. تعجب صديقي الياباني، وابتسم قائلا لماذا كل هذا القلق يا صديقي. أخبرته أني ألاحظ فرقا جوهريا في سلوك الشباب ومظهره وطريقة حديثه بطريقة ناعمة ولينة عما كانت من قبل. ضحك قائلا لا تقلق فنظام العمل باليابان مثل لعبة Whac-a-Mole التي تعتمد على ظهور رؤوس متعددة من مخابئها لاختبار قدرة اللاعب على ضرب هذه الرؤوس بمطرقة لإرجاعها إلى مخبئها مهما كان عددها وسرعتها واتجاهاتها. ونظام العمل مثل تلك المطرقة التي تعيد الرؤوس المشاغبين إلى مخابئها لعدم افساد النظام العام.


ولأن بوصلة الشعوب أحيانا ما تحيد عن اتجاهاتها الثقافية والحضارية والدينية، فيجب أن يكون كل من التعليم والإعلام والفنون والآداب مطرقة خفيفة تعيد الرؤوس إلى أماكنها بقوة ناعمة تدرك أهميتها في ضبط إيقاع الفكر والثقافة والعادات والتقاليد الحميدة بين أفراد المجتمع. ثم يأتي وراء كل ذلك القانون وأصحابه والحارسين على تنفيذه كقوة صارمة لمعاقبة الرؤوس التي تستقوي واستطاعت أن تخرج من مخابئها لتحدث الفوضى والعشوائية من أجل مصلحة شخصية. وفوق كل ذلك تأتي سواعد الدولة وعقلها وقلبها في رسم سياسة عليا يتبعها الجميع وينفذها من أجل ضبط إيقاع الوطن من خلال أبناءه لتحميه من الأيدي التي تريد أن تعبث به بين حدوده وخارجها.


والدولة في مصر حاليا تعمل بسمفونية رائعة ومتميزة في تجديد وتطوير جسد الدولة المصرية الجديدة الذي كان قد هَرِم منذ فترة التجديد والتطوير الأولي التي قام بها محمد علي باشا من أكثر من مئتي عام. وقد نجحت القيادة السياسية نجاحا كبيرا في خطة تجديد الجسد وتطويره، والذي ظهر جلياً للجميع في الإنشاءات الصناعية والتجارية والتعليمية والعسكرية والحضارية الهائلة في المدن الجديدة والبعيدة حتى بدأت تمتد إلى القري والنجوع من خلال مبادرة حياة كريمة بفكر مدروس وخطة زمنية واضحة أمام الجميع.


الشعب المصري شعب ذكي وزكي ويتأثر ويؤثر، ودائما ما يتغنى بالفن وينتشي بالثقافة ويجد نفسه في التعلم والتعليم، ومتميز في تفرقة الغث من الثمين. ولذلك فأي مجهود من الدولة متمثلة في التعليم والاعلام والفن بتوجيه مباشر من القيادة السياسية سوف يؤتي ثماره في خلال فترة وجيزة، ولسوف يُحدث نقلة نوعية حضارية وثقافية كبيرة في تطوير سمات الشخصية المصرية خاصة في فئة الأطفال والشباب والتي سوف تؤمن النقلة التكنولوجية التي تشهدها الجمهورية المصرية الجديدة.


يجب أن نتعلم من خلق الله فينا من نقاط تفتيش وجهاز مناعي قوي ونحاكيه. فالفرصة مازالت سانحة لتصحيح أي تغيرات أو تشوهات حدثت في الهوية الثقافية أو منع ما قد يحدث. نعم، الفرصة سانحة وعوامل نجاحها موجودة في ظل إرادة القيادة السياسية، وعامة الناس، والعلماء، والخبراء. فقط، نحتاج خارطة طريق للتنفيذ مع الوعظ والإرشاد.


ولتحقيق ذلك على أرض الواقع، اقترح انشاء نقاط تفتيش علمية اجتماعية وأمنية لتقوم بالتبليغ عن أي تغيير يطرأ على الهوية الثقافية وأن تتبع نقاط التفتيش هذه "مجلس أعلي للحفاظ على التراث والثقافة" على أن يتبع رئاسة الجمهورية مباشرة ويضم كبار الخبراء من أهل التعليم والعلم والتكنولوجيا والفنون والآداب والثقافة، والأمن، والدفاع، والدين. مجلس يمتلك اختصاصات الرقابة والتشخيص والعلاج من خلال قوانين ولائحة تنفيذية. ويجب أن يكلف المتخصصون ببرامج ومبادرات تصحح وتحارب ودافع عن الأسباب التي قد تؤدي إلى التشوه الثقافة والتراث. هؤلاء الخبراء هم رجال التعليم، والدين، والعلم، والقانون.


لا بد وأن يكون للجميع أدوار متكاملة ومتعاونة ومتخصصة تماما كأدوار الخلايا المناعية في الحفاظ على الهوية البيولوجية.


والله ولي التوفيق.


ا.د. محمد لبيب سالم

أستاذ علم المناعة – كلية العلوم جامعة طنطا

مقرر مجلس الثقافة والمعرفة – أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا

كاتب وروائي وعضو اتحاد كتاب مصر




ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات د. محمد لبيب سالم أستاذ جامعي واديب

تدوينات ذات صلة