الجمال الحقيقي الذي تعرفه النفس السوية من أول نظرة، هو الجمال الرباني وكل ما يمت إليه بصلة..
في العالم مشاهد للجمال والخير ، ومشاهد أخرى مليئة بالقبح والشر، ولعل لحظة تأمل في ذلك تستجلب إلى أذهاننا صوراً ومشاهد شتى نتفق جميعاً على جمالها أو قبحها، فهناك جمال الطبيعة الخلابة، وهناك جمال الطير والحيوان، وهناك جمال الطفل البريء والمرأة الحسناء..
وكجمال الماديات والأشياء، هناك جمال المعاني والحقائق، فمبادئ الحق والخير وقيم العدل والمساواة والإحسان، تبدو في أبهى صورها عندما تنعكس على السلوك الإنساني فترقيه عن الهمجية البشرية وترفعه إلى مصاف الإنسانيين والصالحين والملائكة، فسبحان ربي، كلما اقتربت المعاني منه جل وعلا، كلما زاد جمالها ونورها، وكلما ارتقى الإنسان بروحه كلما أصبح قادراً على تمييز الجمال الحقيقي من العابث المزيف..
وفي دروب الحياة ومسيرة التاريخ فإن كثيرين اهتدوا لدرب الحق، لأن جماله يعرف من أول نظرة..! جمال يعرفه صاحب الفطرة السليمة التي لم تتلوث بدخان مصانع الأهواء والتفكير المقولب. جمال قد يعرفه طفل بريء أو شيخ بسيط، ولا يدركه عالم أمضى سنيناً وعمراً في الحفظ والدراسة!
ولكن هناك أيضا فئة من الناس قد تنسى ما رأته في النظرة الأولى، وتتسرب إليها المؤثرات لتخلخل قواعد يقينياتها، وتبدأ تدور في نفوسها – لا عقولها – خيالات الشك وأوهام الباطل، فيستسلمون لها، وتغذيها مخيلتهم الخصبة، وإذا وجد خلان السوء والمحيط العفن الموبوء فهذه روافد جديدة لمياه آسنة تصب في نفس البقعة التي يرتع فيها الشيطان.. فيا للقبح..!
لحظات الشك عندما تستغرق بالمرء زمناً لا يضع حداً له باليقين، فإنها تمتد لتضع هي حداً لإيمانه ويقينه، بل حتى حداً لحياته في الإيمان..!
القرآن الكريم يثبت قصص أحد هؤلاء، الوليد بن المغيرة، وهو من سادات قريش وكبرائها. وقد سمع عن رسول الله (ﷺ)، فأتاه يستمع إلى بعض آيات القرآن..
ها هو يستمع إليها بصوت رسول الله.. صوت الصادق الأمين كما يعرفه..
اقشعرت أطرافه واهتزت مشاعره، فما يسمعه كلام ليس من قول بشر، خطر بباله هل هو شعر.. لا .. يستحيل ذلك! فهو من كبار الشعراء ويعرف جيداً أن هذه الآيات لا تخضع لقواعد الوزن والقوافي، هل هي كهانة.. لا يمكن.. فما محمد من زمرة الكهان ولا هذا القول سجع لا روح فيه..!
إنه بناء متماسك محكم، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. ولكن..
عاد إلى قومه وهم ينتظرون رأيه، تعصف به الأفكار والظنون، طريق قد تقصره المسافات، وتطول به الصراعات.. ما أن رأوه حتى اجتمعوا يلفهم الحقد والضغينة وتملأ عقولهم إشاعات وسبقيات سمعوها عن محمد (ص) حتى من عمه أبي جهل يؤكد فيها دائماً أن ابن أخيه جن وفقد عقله..!
بادروه: ما تقول في الذي سمعت من محمد؟
توقف لبرهة واسترجع ما رأى، وقال: إن له لحلاوة .. وإن عليه لطلاوة .. وإن أعلاه لمثمر.. وإن أسفله لمغدق .. وإنه ليعلو ولا يعلى عليه..
إن له لحلاوة .. وإن عليه لطلاوة .. وإن أعلاه لمثمر.. وإن أسفله لمغدق .. وإنه ليعلو ولا يعلى عليه..
سبحان الله، لكأنه قد ذاق كأساً من العسل أو رأى روضاً من رياض الفردوس. كيف لا.. لقد رأى الجمال بأم عينيه!
سألوه مرة أخرى بدهشة واستغراب: هل هو شاعر؟
قال: أنا أعلمكم بالشعر وما هو بقول شاعر، ولئن قلتم: إنه شاعر، فضحتكم العرب!
قالوا: أهو قول كاهن، قال: ليس بقول كاهن،
ظلوا يجادلون ويسألون، لكن حتماً ليس من أجل معرفة الجواب..
عصفت به أفكاره مرة أخرى، وأخذ يقمع نداءات الضمير، قدر وأعاد التفكير، فإذا به يفقد قدرته على التمييز، ويتماهى الجمال والقبح في عينيه، وأخيراً يضع حدا لتقديراته وشكوكه بخلاصة تستصغر كل العظمة التي رآها "إن هذا إلا سحر يؤثر"..
(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ، فقتل كيف قدر، ثم قتل كيف قدر، ثم نظر، ثم عبس وبسر، ثم أدبر واستكبر، فقال إن هذا إلا سحر يؤثر، إن هذا إلا قول البشر)
مات الوليد بن المغيرة كافراً ملعوناً، وتحدثت الروايات عن مسيرة حياته بعد هذه المقولة، مسيرة من التخبط والضلال ونفرة الناس منه، حتى قومه الذين عاد إليهم.. ولكن المهول والعظيم هو كلمة الحق جلا وعلا تتوعده (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ )
لقد تقاذفته ظنونه وأفكاره، وقد كان بإمكانه في تلك اللحظة المصيرية، عندما سمع آيات الرحمن تتلى عليه، آيات تخر منها الجبال تصدعاً وخشية وتهبط لها قلوب المؤمنين ذوي الفطرة السليمة- كان بإمكانه لحظة رؤية الجمال أن يختار طريقه بلا رجعة..
ولكنه قدر..!
لقد كانت رجعة الوليد عن قوله سبباً لكفر قومه حتى أنهم كانوا يجلسون للناس ويحدثونهم عن النبي وجماعته، فلا يمر بهم أحد إلا حذروه التأثر والانقياد لهم.. ولا عجب أن يقنعوهم بأن لحظات "رؤية الجمال" - إن شعروا بها- فهي من مس السحر أو غيره..!
إن ما تلفت له الآيات الكريمة وتؤيده الأحداث، هو أن هؤلاء الخراصين، لا يعودون بعد استسلامهم للشكوك الباطلة كما كانوا، بل يعودون أقبح وأكثر شراً وبطراً " ثم أدبر واستكبر" .. بل إن لحظات الانحدار تبدأ من ساعة قرروا أن يتجاهلوا الحق الجميل، حتى يصل بهم تسافلهم وانحدارهم إلى درجة أن لا يكونوا نكرة في التاريخ وحسب، بل حتى أشراراً مجرمين..!
حتى إبليس الرجيم برهن عن مثال واضح في الوصول لعالم الجمال الرباني، ورجوعه عنه بإخفاقة مريعة لا تتناسب وحجم ما رآه وعلمه، فإبليس كان يتعبد الله تعالى أمداً طويلاً، ويرتع في ملكوت المسبحين والعابدين حتى كانت لحظات تردده ورفضه السجود للآدمي الإنسان الأول هي لحظة التراجع الأولى، والتي لم تنته بذلك فقط، بل توعد بغواية بني آدم جميعاً بحس انتقامي حاقد، وهنا وصل إلى نقطة اللاعودة، فكان من المبلسين من رحمة الله إلى يوم الدين..
نشرت هذه المقالة في مجلة التجديد - العدد 4
www.tajdeed.org
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات