و كان في مقاومة ذلك التيار، قوةٌ و استفاقة..! بناءٌ ما أدركناه..

أوشّكتُ على أن أفقد المَزيد من القطعِ بداخلي، حتى صار تيارُ الهواء أشدُ جاذبيةً من الباب الخَشبيّ. ما كان لي خيّارٌ آخر سِوى أن أوصِدّ ذلك الباب بشكلٍ وقتيّ قبل أن تَختلعهُ العاصفةُ من مكانهِ، فلا أقدرُ على إصلاحهِ. أوصدّتهُ إلى أن أتوقف عن النزفِ و التخبُط و الترنُحِ هكذا.

ثم إني أدركتُ حق الإدراك، أنهُ ما وجِّد في هذه الحياةِ جِهادٌ أعظمُ من جهادك على الحِفاظ على قلبك السليم، كيّ يبقى سليماً، و كيّ تعود بهِ إلى الله سليماً، سوياً، طيباً كيفما أتيت به. و رغم كُل شيءٍ سيء؛ الماضي مِنهُ، و الحاضر و القادم، عليك أن تُحافظ جيداً على ما كُنِّز بكَّ في جوفكَّ.

ثم إني أدركتُ أن الحياة و إن وجَّد بها ما فاض من الظُلم، و إنّك إن ظُلمت، فالله "العدل" يَستحي؛ إن استغاث به عبداً أن يَرُدَّهُ صِفراً. إليه المُشتكى، فلا يَظلِمُ ربُك أحدا.

ثُم إني أدركتُ و ربّي، أن لا طبيبّ و لا دواء يَنفعُك يا بني آدم من دون الله. و إن مسك الضُر فلا كاشف له إلا هو، سُبحانه المُستعان على ما تصِفون.

ثم إني أدركتُ أن الله يُعطي أشدّ مَعاركهِ لأقوى جُنوده، يبتليك على قدر إيمانك، يبتليك لتهرول إليه، يبتليك ليُدخلك في زُمرة الصابرين الأوابين، يبتليك ليُطهرك؛ ألا يهُم عُمرك أو لونك، ما هو إلا اختباراً لإيمانك. فإن كُسرت أجنِحتُك من سواهُ يُعيدك مُحلقاً؟ و إن انطفأت أساريرُك، من سواه يضيئها لكّ؟ خُلقت هَشاً، سُبحانه ابتلاك ليقويك.

ثم إني أدركتُ أننا "قليلاً ما تشكرون"، ألا يُحمد من هَدّاك دون أن تَطلبهُ؟ و أعطاك ما لم تتوقعهُ؟

ثم إني أدركتُ أن ما بيّن ما حَرَّم الله و ما أحَّلهُ، راقةٌ ضيئلةٌ، إن قُصِّفت، خَسِرت خُسراناً مبيناً، فحَسبُك.

ثم إني أدركتُ أن ما على المرء إلا السعي، إن أمرك يُدبره العظيمُ فوق السمواتِ السبع، أنظر إلى الأمسِ و أتعجب على سوءِ ظنوننا بِه، و هو الذي وسِعّت رحمتهُ كُل شيء، فاسعى و اصبر و أحسن ظَنك به، ستُفرج و سَيجبُرك جَبراً يليقُ برحمتهِ.

ثُم إني أدركتُ أننا حقاً ما كرِهنا أصدقائنا الذين رحلوا عنَّا فجأة بلا سَبب واضحٍ كما ظننا، ولم نَكره الأشخاص الذين تعمدوا إيذائنا، و لم نكره من سَخِر و استهان، و خَذل و خَان، كُل هؤلاء لن نكرههم قط، و لن نتمنى لهم الشر والأذى، فان تعفوا و تصفحوا و تغفروا فإن الله غفورٌ رحيم.

ثُم أني أدركتُ أننا نفشلُ فشلاً ذريعاً في الانتقام من هؤلاء، و الحمد لله حمداً كثيراً على ذلك.

ثم إني أدركتُ أننا وحين يفيض بنا الكيل، ننسحبُ بهدوء تام، لا عتاب، و لا نقاش؛ فقط الصمت و التفويض إلى الله، و هذا يليقُ ب "السلام".

ثُم إني أدركتُ أن الكُره لا يَمحو شيئاً، بل يزيدُ فوق الفسادِ، فسادِ. و إن مضيّنا، فلا مُضيَّ سوى مُضيَّ الكِرام. و أن القلوب المُسلحة بالحُبَّ، تنجو بأمرٍ من ربها، من كُل عذاب.

ثم إني أدركتُ أن ما نِلته سهلاً، راح سهلاً. فالأشياء العظيمة، يلزمُها جِهاداً عظيماً، و إن تَسلُقِك لعناقيد الزهرِ الشائكة، سيأخُذك الى بتلاتِها و رحيقِها في النهاية، و لو بعد حين.

ثُم إني أدركتُ أن السعادة تُدرك، و لو في أشد اللحظاتِ المُقحلة. لا وجود لما يُنعَّتُ ب"محطاتِ السعادة"، فالسعادة و طيب الحياة، نِعَّمٌ يُديمها الله على من ينتقي من عباده الصالحين. و مهما طال أمدُ الألم، فألطاف الله لن تُفارقك. فاللهُ حين يديم عليك ابتسامتُك الوهَّاجة، ما أنت بضالٍ للطريق أبدًا.

ثُم إني أدركتُ أن" العبرةِ ليست بالخواتيم" كما تعهدوا لنا بقول ذلك، بل إن مكيال سير الطريق، أثقل، و أن السير في طريقِ الوصول، وصول في حد ذاتهِ، و لو لم تصِل.

ثم إني أدركتُ أنك المالكُ الوحيدُ ل"مملكتك"؛ صندوق حياتك، فانظر ما أنت بواضعٍ فيه. و اخرُج مِنهُ بين الحين و الآخر، و انظر للبشر أمثالنا و استمع لما في صدورهم؛ هُناك من يتألم لنفس الأشياء التي تتألم بسببها، و لو كان غيرها. و هناك من يسعد بذات الأشياء التي سعدت بها كذلك. ثُم و الله إن الخير ليتوطن بسائرِ الخلائقِ، ألا نرى؟ جميلٌ أن تُدرك أن جميعنا نتلاقى و نتشابه في محطةٍ ما، أما خُلقنا جميعُنا من ذات الطينِ اللازب؟

ثم إني أدركتُ أن الموت يُداعبنا كُل يومٍ بالفُراق. و فراق الأحِّبة غير أيّ فِراق، فما هو بهين، و لكنه آتٍ آتٍ، فانظر ماذا أنت بفاعل. من الله و إليه نعود، فلا حول و لا قوة إلا به.

ثُم إني أدركتُ في إحدى المحطات نحو الازدهار، أنه صار واجباً عليّ أن أُحب نفسي من جديد. في كل مرة كانت تضع الحياة أثقالها فوق عاتقي، كُنت أحرم نفسي من الحُب الذي كان يتوجب عليَّ أن أمنحهُ لروحي الهائمة، التائهة بين شِتات العقل و ثِقل القلب. تعلمت أن أحب نفسي، بكل ما فيها من حُطام. فلا كمال لغيرِ الله. كُنت أتسائل كيف لشخص أن يدوم عطائهُ و حُبه للغير، و لا يَمنح نفسهُ مِقدار ذرة من تلك المحبة؟ كيف له أن يتقبل الجميع، و لا يتقبل نفسه؟ كيف له أن يزرع شعوراً جيداً في فؤاد أحدهم بكلمهِ الطيب، ثم يُمسي بقذف نفسه باتهامات و عتابات و تأنيبٍ للضمير! تقول أمي؛ "كيف لشخصٍ لا يعرف سوى الحب، ألا يُحب نفسه؟" ثم أدركتُ أنه قد آن الأوآن أن أريح بال الأحِّبة، فالحِملُ فوق الأحمالِ، حُطام.

ثُم إني أدركتُ أن الحُزن هو وجبةُ إبليس المُفضلة، يراك أيها المُحسن تَحزن على ما لا يضُر و لا يَنفع، فيزيدك فوق الهم، أغمام. فاستعذ و اصطبر و اقترب من المُهيمن، ذاك هو المَلاذّ.

ثم إني أدركتُ أن لا حصر ل "ترك الأثر" في أمرٍ ما. ما أثرُك في اختراعك العظيم و لا اكتشافك الخارق؛ بل كلمتُك الطيبة أثر، و إحسانك أثر، و دَفعك بالتي هي أحسن أثر، و جبرُ خاطرِ أخيك أثر، و إخلاصك في عملك أثر، و إيمانك بالله أثر، و بَقائك على طبيعتُك في حد ذاتِها أثر! و هذا يكفينا.

ثم إني أدركتُ أنه إذا أحب اللهُ عبداً استعمله في الخيرِ و قضاء حوائج الناس، و لا يستبدلهُ. ما سيق هؤلاء إليك إلا بمحبةٍ من الله، فالحمدُ لله.

ثُم بعد كل ذاك، أدركتُ مرة أخرى أن الحياة فانية فانية، و أن الآخرة باقية باقية. ما الدنيا إلا رحلة التعثرات و الاختبرات، و البلائات و الابتلائات؛ فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون.فما لنا غير الصبر؛فاصبر صبراً جميلاً، إنهم يرونه بعيداً، و نراهُ قريباً.

ريم عاطف
إقرأ المزيد من تدوينات ريم عاطف

تدوينات ذات صلة