البرد قارس، والزمهرير شديد والريح تعوي وأنا أتنقل في البراري
كنت هناك، كنت هناك حين حدث كل ذلك، مازلت أتساءل كيف نجوت من هناك بعدما اسودت الدنيا في وجهي، واختفى كل أثر للحياة فيها بما في ذلك حياتي أنا، حين ظننت أني هالكة لا محالة ثم استيقظت لأجدني نجوت لكن عقلي صار خال من كل ذكرى في حياتي إلا ما جرى في ذلك اليوم، كأن العاصفة التي أودت بي هناك نخرت خلايا عقلي ومحت كل ما فيها مثلما محت آثاري ووجودي
في يوم ما من أيام الشتاء، لا أستطيع تذكر تاريخه بالضبط لكن معطفي الثقيل وحذائي عالي الرقبة وشيا لي ببرودة الجو، لا أدري حتى هذه اللحظة إن كنت رفقة أحد أم أني كنت وحدي من البداية لكني أذكر أني مضيت في رحلة استكشافية في البرية وحدي في يوم عاصف تهب فيه الريح بشدة، الزمهرير يعلو والهواء البارد يضرب وجهي فيجعل أسناني تصطك ولوهلة أخال نفسي سأطير من قوة وسرعة الرياح، وهو ما كان أمرا اعتياديا نسبة لكوني في أبرد جزء شمالي الكرة الأرضية، وإضافة لكل هذا كان الثلج عميقا عميقا، يصل حد ركبتي والجلي أن المشي صعب جدا في هكذا جو فما الذي دفعني للسير فيه؟ يبقى السؤال معلقا، ثم انضم إلي المطر كضيف مفاجئ من غير دعوة، وسبب مع الرياح العاتية سنفونية موحشة ومخيفة، واتضح تزامنا مع كل هذا أني ظللت الطريق، ازداد هول الريح، وصارت الرؤية مستحيلة تماما وكدت أن أطير فعليا لوما أني عمليا مدفونة حتى خصري في الثلج، ثم تحول المطر الغزير إلى ثلج أبيض عصف مع الريح المتناثرة ليزيد من الوضع سوء، ليجعل حركتي ساكنة دون إمكانية للتقدم أو التأخر ثم يدفنني عميقا في الأرض، هنا ظننتي سألقى حتفي لا محالة، وأني لن أرى السماء مجددا وانتهت ذكراي هنا ووفقدت الوعي غالبا من الرعب قبل أن يكون أي شيء آخر
ما حدث بعد ذلك تكمله فرق الإنقاذ التي استدلت على مكاني عن طريق إشارة الساعة الذكية التي أرتديها، لا أدري من أبلغ عن اختفائي، ولا أحد يدري أيضا، لكني الساعة استحقت المبلغ المدفوع في حقها حقا، رغم أني لا أدري ما الفائدة من النجاة مع ذاكرة محروقة تماما إلا من هذه المعاناة لكن لا شك أن هناك فائدة
تظهر هذه الحادثة في أحلامي يوميا، تباغتني وتسرق النوم مني، أرى نفسي هناك بأعين متفرج مكبل لا يستطيع مساعدتي، أو أعيش نفس الموقف مرارا وتكرارا مرات ومرات في ذات اليوم، تنتابني نوبات صراخ ورعب هستيرية شديدة، تنتهي بحقني بمهدئات تجعلني أنام لتعيدني للعذاب الذي كنت أعيشه هناك في أحلامي
أمضيت في هذه المصحة قرابة السبع سنوات، أصبحت فيها متعايشة مع نوبات هلعي، ما زلن أرتعب من كل نسمة نهب، ما زلت لا أعرف من أنا، ورجواي الوحيد أن أعرف قبل أن أموت
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات