لا تكونين أما بالولادة، ولا تصبح أبا بولادته فلا أحد اختار والديه لكن كآباء أنتم اخترتم أن تحظوا بأبناء
قيل إنك لو سألت أباك أن يحضر لك نجمة فإنه سيأتيك بكامل السماء، أو هو أحن شخص يوهب إلى الانسان في حياته، وما إلى ذلك من الترهات
لم أقول عن هذا ترهات؟ لأني ببساطة لم أر من أبي أي شيء مما قيل
أعرف أنه ليس بالضرورة أن يطابق أبي وصف ما قيل عن الآباء العظماء، لم أنتظر منه ذلك أساسا، لكني أملت رؤية ذرة حب أو اهتمام بي منذ نعومة أظافري، أردت شيئا من العاطفة دون ضرر بعده شيء من المشاعر غير الكره وعدم القبول في عينيه، كنت أخاف إذا تصرف معي يوما بشكل جيد، أثبت التاريخ أن كارثة ستعقب بعدها
أنا البنت الوسطى في عائلتي، قبلي فتاتان وبعدي ذكران ولأنني كنت ثالث فتاة فقد كان أبي الذي يبحث عن خليفة يحمل اسم العائلة العريقة الضاربة بجذورها في التاريخ باغضا لي ولولادتي، نشأت معتمدة على حب أمي وحده وعلى رحمة وعطف أخواتي وعلى صيحات الاستهجان والاستنكار ونظرات الكره والبغض وعدم التقدير من أبي
ولم تشفع لي شخصيتي الباحثة عن الكمال ولا تفوقي الدراسي ومواهبي الفنية شيئا عن هذه المشاعر ولست أدري لو زادت من كرهه لي في الواقع، ورغم كوني أكثر من يعمل بكد بين إخوتي وأكثرهم هدوءا وتميزا فإن العتاب والعقوبات دوما تطالني في أصغر زلة لا يعاقب عليها أحد غيري لو فعلها، كنت أعاقب إن ارتكب أحد إخوتي الأصغر سنا خطأ لأن من واجب الأخت الكبرى إرشاد إخوتها إلى الطريق الصحيح، في حين يحصل الآخرون كبارا وصغارا على مديح ومكافآت لإنجازات أقل شأنا بكثير ومهما كانت أعمالهم ودرجاتهم غاية في التواضع، ولم ينته الأمر بإخوتي وأخواتي فقط بل امتد التفضيل بنات وأبناء عمومتي وعماتي من دوني حتى أحسست نفسي ابنة زنى والعياذ بالله أو حتى ابنة لأمي من رجل آخر
وبسبب هذا نشأت منطوية على نفسي ومنغلقة على كل من حولي، أقدس العزلة وأحاول إتقان كل ما أقوم به تجنبا لكل وأي ضجيج، كنت كبيرة بما يكفي لأتوقف عن تسول عاطفته، فعزلت نفسي عنه إلا بمقدار ما وجب، ما كنت أتفاعل إلا مع أمي وإخوتي، أتفاعل معهم على طبيعتي، أسرح وأمرح معهم فقط وفي غياب أبي لا غير، لم أحب أبي لكن لم تطاوعني نفسي على كرهه فهو أبي ومعيلي، ظننت أني سأتمكن يوما من إذابة الجليد الذي أحاط قلبه عن حبي، آمنت أن كل الآباء وإن عاندوا يحبون أطفالهم وكانت المفاجعة في سنتي الأخيرة من الثانوية العامة، في خضم استعدادي لاختبارات القبول، كنت ميالة لمدرسة فنية نظيرا لموهبتي الطبيعية التي حرصت على تنميتها في الرسم والنحت، وما بقي للامتحان إلا أيام معدودات كنت أقضي لياليها معتكفة على حل أسئلة ما سبق من السنوات، سمعت ضوضاء في وقت متأخرة من الليل كأنها أصوات شجار وسمعت ليلتها ما غير كل حياتي، كانت سابقة من نوعها أن يعلو صوت أمي في جدال مع أبي، تسللت من غرفتي مسترقة السمع علني أجد طريقة لأنهي بها ما بدأ قبل استيقاظ أحد فالوقت فعليا متأخر للغاية وهناك سمعته، سمعت أبي يسبني ويلعنني، ناهرا أمي عن التكفل بمصاريفي، كارها اليوم الذي جئت فيه إلى الحياة، متوعدا طردي القريب من البيت هكذا من دون سبب
تصلبت في مكاني مغلقة فاهي خشية إفلات صيحة صدمة منه، تغرغرت الدموع وملأت مقلتي عيناي، تغشو ضبابة عيناي حتى خفت أن أسقط مغشيا علي في ذلك المكان، حملت نفسي بصعوبة للعودة إلى غرفتي، وما إن وطأت قداماي عتبتها حتى أفلتت كل مكبوتاتي بصرخة ألم في وسادة حتى لا تعطي صدى، بكيت وبكيت حتى نمت، في ذلك اليوم ماتت كل آمالي وأحلامي ببناء جسر ودي مع أبي، قطعها هو بنفسه، وما كانت لي لا قوة ولا رغبة في إعادة بنائها مجددا
عزلت نفسي عنه زيادة، كرهته حقا ولم أرغب برؤية وجهه أصلا، وببقائي بعيدة عنه لا سبب له ليبهدلني مجددا، فقضيت كامل وقتي في حشر رأسي بالمعلومات ثم الاستراحة مع باقي أفراد عائلتي في غيابه
ثم جاء يومي الموعود، حلت علينا اختبارات الثانوية العامة مكللة بالأفراح وبنتائج جد مشرفة لتفوقي كالعادة، رأيت نظرة فخر في عيني والدتي كانت كفيلة لانتراع كنت همومي وتعبي وفي نفس الوقت أعطتني جرعة شجاعة لمواجهة أبي بخصوص اختيارات الجامعة، كنت قد حصلت على توصية ومنحة للدراسة خارج الوطن مع التكفل بكامل مصاريف تعليمي ومعيشتي، علمت أني أمي ستعارض بشدة ولكنها فرصة خلاصي وخمنت أن معرفتها بالضغط الذي علي في البيت سيجعل من موافقتها مسألة وقت فقط حتى تتقبل الفكرة وامتلاك أقارب في مدينة دراستي سيجعلها تلين شيئا فشيئا، وما كان يخيفني إلا رفض أبي للأمر لكن على عكس ما توقعت رحب بالأمر بسعادة فوقت خلاصه مني قد حان، في الواقع هناك جزء مني، صغير بحجم حبة الفول السوداني أمل معارضته للأمر ولو بإيماءة أو تكشيرة لكن هيهات، رحب بالفكرة وتقبلها سريعا حتى إنه كان يتحدث إلي بسعادة رأيتها أول وآخر مرة في حياتي
ثم بدأت بعدها في تحضير مستلزماتي وأوراقي استعدادا لمغادرة الوطن وحضن أمي، بين حزن أمي وفرح أبي، استنكر إخوتي قراري وحاولوا ثنيي عنه مرارا دون جدوى، وكان جل ما يشغلني طمأنة بال أمي علي، فحاولت وحاولت وقدمت وعودا كثيرة بالاتصال كل يوم وزيارة أقاربي كل نهاية أسبوع والحديث إليها كلما واتت فرصة، وإرسال صور وفيديوهات طمأنة على حال، وأيضا المجيء كلما تسنت لي فرصة، كان وعدا قدمته لطمأنة أمي ولم أتوقع الوفاء به في الواقع، سيكشف المستقبل ما حدث في هذا الصدد
جاء يوم رحيلي بسرعة، حاولت فيه أمي التظاهر بعكس السعادة بقدر ما استطاعت، كان في وجهها مسحة ألم لم تنجح محاولاتي في انتزاعه، مع دموع في عينيها لم أستطع احتواءها، كان تجمعنا في المطار مليئا بالحزن والأسف رغم كثرة الحديث والضحكات المنشرة، فقد بذل أخواي جهدهم في جعل الجو أكثر مرحا وتنافسا في إلقاء النكات، في حين دعمت أختاي والدتي، لم يأت والدي بالطبع، ولكم كنت مرتاحة بعدم مجيئه وإلا ما كنت لأودع عائلتي كما أريد ولبقيت متصلبة أنتظر مصيبة تحل بي
في الجامعة شققت طريقي بصعوبة إنما بثبات وتفوق كما هي عادتي، في الواقع لم يكن التفوق اختيارا لأني طالبة منحة وأي تهاون ترجم انخفاضا في معدلي سيعني نهاية ابتعاثي، بذلت جهدا في تطوير مستواي والحفاظ على كفاءته، كنت أملأ فراغاتي بدورات تدريبية وورشات عملية ومحاضرات متعددة، كانت دعوات أمي تصحبني صباح مساء، عند الخروج إلى الجامعة وعند العودة منها، حفظت الطريق إليها مثلي، عرفت كل حجر موجود في السكن وتعرفت على كل صديقاتي داخله وخارجه، كانت معي حين ضعت أول مرة عند زيارة خالتي وحين قدمت أول رسمة في معرض جامعتي، وهذه من خططي حتى تطمئن على حالي، وفي كل عطلة من الجامعة كنت أزورها وإخوتي بسرية، أقضي معهم بعض الوقت بعيدا عن أنظار أبي ومعرفته، في حين أني أقضي أسبوعين كل صائفة في البيت أتحاشى فيها رؤية أبي بقدر استطاعتي وأمضي يومي في صحبة أمي بينما يذهب الجميع لأشغالهم، أما هو فاستمر في تجاهلي، قضيت أربع سنوات في غربتي، صارت فيها وطنا لي، بكيت كثيرا حينما انتهت سنوات دراستي واضطررت معها للعودة، بكيت أياما قضيتها وصحبة سأفتقدها وحنانا لم أعهده
وقبل عودتي قمت بأول ظهور لي هناك وافتتحت معرضي الأول، أرسلت دعوات لعائلتي لكي يشاركوني فرحة إنجازي، فحضر الجميع إلا هو، عدت إلى أرض الوطن وقبل هذا وجهت لي دعوة لحضور مؤتمر عالمي، أستقر فيه بعدها إلا من دعوات مماثلة وحضور معارض مرة على مرة، أردت اصطحاب والداي معي لأجولهما في المكان ولم يخيب والدي ظني فرفض، رافقتني والدتي مع أخي الأصغر وأختي الكبرى، في حين اتفقت مع أختي الوسطى وأخي الأكبر باصطحابهما في المرة القادمة وتركناهما حتى يعتنيا بأبي، قضيت وقتي بالعمل والتجوال بأهلي في البلاد، كنت دليلا سياحيا متمكنا وممتعا حسب وصفهم وفي صبيحة اليوم ما قبل الأخير لمغادرتنا تلقيا اتصالا غير مجرى حياتي وحياته وحياتنا
لأبي سجل مرضي مزمن تمثل في إصابته بالتهاب غشاء القلب قبل سنوات طويلة حينما كنت طفلة، في الاتصال الذي تلقيناه، أخبرتنا أختي أن والدي أصيب بذبحة قلبية وأنه نزيل العناية المركزة منذ البارحة بسبب تفاقم حاله
عدنا بأسرع ما أمكننا، أرعبنا الحال ، كان وجه أخي واجما يشي بصعوبة ما عاشه، وجهه قاتم والدموع محتبسة في عينيه، أما أختي فكانت منهارة وذابلة، أصيب من أخواي الآخران بالذهول لكن أكبرنا حاولت التجلد من أجلنا ومن أجل أمي، ومع ذلك لم أشعر أنا بشيء، ولا حتى بالأسف على حاله، كنت طبيعية للغاية حد خوفي من نفسي وكنت ألعنها لقسوتها وأؤنبها على برودتها لكن دون نتيجة تذكر، ظن الآخرون أنه اضطراب بسبب الصدمة، لكن الوضع لم يكن مناسبا للقلق على حالي فوضع أبي تدهور أكثر، وأبلغنا أنها أيامه الأخيرة، حيث سمح لنا بزيارة كل خمس ساعات لخمس دقائق أو أقل، واحدا واحدا، كان فيه أبي المكبل بالأجهزة والمعدات يجاهد ليقول كلمات قليلة يودع فيها من يلج ليدخل إليه، هذا ما أخبرت به بأي حال، فحين جاء دوري وجدته نائما، لعله كان كذلك أو ربما تظاهر بالنوم، لست أدري ولن أدري أبدا، لأن حاله ازداد سوء بعدها، بغيبوبة ألمت به فاضت منها روحه إلى بارئها، وفارق الحياة، على كل اجتزت الجنازة وكنت بخير لكني عانيت كثيرا في الأيام التي تلت ذلك، كنت أبعد أبنائه عنه، أكلني الندم وعذبني ضميري، جاءني في تهيئات على شكل وجه أبي الغاضب كل ليلة، حلمت فيها به يوبخني ويضربني، ثم بأحداث يوم اكتشفت مدى كرهه لي وأنه اكتشف استماعي إليهما وعذبني، كنت أتقوقع على نفسي كل يوم أسألها إن كنت أذيته أو إن كان علي المحاولة أكثر أو التقرب إليه أكثر، لمت نفسي كثيرا وحملتها مسؤولية سوء علاقتنا، كانت الأسئلة تعذبني كلما حاولت النوم، أأكون ملومة بما حدث رغم أنه أبعدني عنه على الدوام؟ أعاصية أنا لأني لم أتقرب إليه كفاية؟ احتنق وجهي وغار، شحبت عيناي وفقدت ألقهما، وفقدت الكثير من وزني، أسندتني أمي وإخوتي في وقت احتاجوا هم إلى مواساة، لاحظوا الاكتئاب الذي نهشني وحاولوا الترويح عني قولا وفعلا، في النهاية لم أجد إجابة لأسئلتي إلى اليوم، ولم أكن لأتجاوز الأمر لولا الله ثم عنايتهم بي
ثم هكذا انتهت حكايتي مع أبي، في الواقع هي لم تبدأ أصلا، هي حكاية انتهت في خط بدايتها تماما بل حتى مع خطوات إلى خلفه
الآن بعد أربع سنوات من تلكك الأحداث، ها أنا في زيارة جماعية إلى قبل والدي، وقفت أمام قبره، نظرت إليه طويلا ثم تركت ورقة في ظهره ومضيت
"أبي، لم أحببك يوما، ولا أعتقد أني سأفعل، كرهتك كثيرا وأظنني لي حق في ذلك، لا أخالني سأسامحك، وربما ستغضب كما العادة لو سمعت هذا لكني ممتنة لك على شيء واحد: شكرا لجلبي إلى الحياة – ابنتك شهد-"
تمت
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات