طبيبة نساء وتوليد ناجحة بخواطر وأفكار سوداء رغم الابتسامة التي لا تفارقها

"مبارك لك، أنت في الأسبوع الثامن من الحمل، يمكننا برمجة حصة سونار دقات قلب في موعدك القادم وسنتعرف على جنسه بعد أشهر بحول البارئ" قالت الطبيبة بآلية وابتسامة ودية ، وهي تنهي فحصها وتبتعد ، حتى تترك لمريضتها فرصة تقبل الأخبار السعيدة رفقة زوجها الواقف بجانبها طوال الوقت،

أجابت على أسئلتهما بكل صبر وابتسامة دبلوماسية تعلو محياها وحالما خرجا اتصلت بمساعدتها وقالت دون انتظار رد الطرف الآخر : " هيام أدخلي المريضة التالية بعد عشر دقائق"

هما زوجان حديثان وهذا مولودهما الأول، وفرحتهم الهستيرية -بعد حديث عن عقم وتخوف من تحققه- تجعل الابتسامة تنتقل إليها هي الأخرى لاشعوريا حتى وإن لم تكن مرتها الأولى في استقبال هكذا حالات، ثم يشتعل ذلك الشعور المدفون -ككل مرة- والذي تحاول دوما تجنبه : ما الذي كنت أفكر فيه بالله حينما اخترت هذا التخصص؟ أنا لا أحب الأطفال، ليس لحد اختيار توليدهم كمسار حياة ولا أحب النساء الحوامل أيضا، كما أنه تخصص متعب وصعب التملص، فالنساء تلدن في كل وقت وتحملن في كل وقت حرفيا، وحتى مع المقابل المادي العالي والذي يجعله مرغوبا خاصة لدى العمل في العيادات الخاصة فإني لست بعوزة للمال في الأصل"

توشك دقائق استراحتها العشر على الانتهاء، تمسك رأسها بين يديها -كالعادة- عندما تأتيها هذه الهواجس، تتساقط خصل شعرها السوداء بتمرد فتزفر بعنف، ثم تنزل يدها لتنظر إلى التماعة الخاتم في اصبعها فتتنهد بتعب.

حتى وهي مخطوبة منذ عام ونصف فإنها لا ترغب أن تصبح أما، ليس قبل الوقت المناسب، ومن الجيد أن خطيبها -بعد نقاش جاد ومثمر لكليهما- لم يمانع تبني وجهة نظرها بأن يمنح كل واحد منهما الأخر وقتا لفهم أسلوب تفكير وطريقة حياة الآخر وعاداته بعمق أكثر حتى يستطيعوا تربية أولادهم في بيئة أكثر راحة، تلك هي الحجة التي قدمتها ولكن هي كانت بالفعل تخشى حدوث الصراعات والانزلاقات وعدم توافق العقليات ثم الطلاق وبجانب أن مجابهة أمور كهذه أيسر لوحدها فإنها في ذات الوقت لا ترغب أن تمنح أولادها المستقبليين تجربة يشتتون فيها بين العائلات ويترببون فيها في البيوت، وذلك نابع تجربتها الشخصية، فانفصال والديها ثم وفاة والدتها المفاجئ وهي بنت خمس سنوات هو نقطة فاصلة لا ترغب في تكرارها على أحد آخر قطعًا رغم أنها وجدت بيت خالتها ملجأ ومسكنا لكن ليس لأولادها خالة من بعدها.


يقاطع حبل أفكارها دخول المريضة التالية، هي واحدة من مريضاتها المنتظمات وتوشك على الولادة ورغم كونها ولادتها الرابعة فهي مازالت تخشى الولادة كل مرة، تتجاذبان أطراف حديث بسيطة لتخفف توتر مريضتها وتحاول بكل جهدها أن لا تظهر ذلك لكن الوضع حقا صعب هذه المرة، تنتقل للفحوصات الروتينية وبعض الفحوصات الخاصة بتلقائية وتبتسم مطمئنة المرأة، تغوض ثانية في أفكارها وهي تتخيل ولادة مريضتها الرابعة، لحظة هل يصح تسمية امرأة حامل مريضة أصلا؟ تفكرمجددا في تخصصها والأطفال والتربية، ترى كيف يستطيع الانسان تربية أبنائه؟ كيف يمكنه إغداق الحب والحنان والأمان؟ ليس لديها الثقة في منح كل هذه المشاعر الإيجابية، كيف يعطي فاقد الشيء ما يفقده؟ وأي حب وأي حنان وأي أمان عاطفي هذا الذي أمنحه لكائنات أتت التوة للعالم وأنا أعاني منه عجافا

بالله من بين كل ما طرح علي من التخصصات لم اخترت النساء والتوليد؟ ثم يهبط عليها الإدراك ككل مرة تأتي الإجابة بنفسها كالعادة، تلك الإجابة التي تهرب منها وتسير إليها دوما، بنفس الأحاسيس ونفس الذكريات كأنها تعيشها من جديد، تزداد أنفاسها حدة، تتعرق بغزارة، يصفر وجهها وتحاول جاهدة كتم آهة ألم وأنينا يكاد يعصيها ويفلت، تحاول التركيز على المريضة أمامها لتخفي تغير حالاتها، ينتهي الفحص، تخرج المريضة، تغلق المكتب عليها وتنهار على الأرض باكية، تتذكر هذا كلما أتت امرأة بحالة خطيرة أو ولادة صعبة

يأتي صوت أمها من هناك ، حتى وهي لا تذكر وجهها بوضوح بعد الآن إلا أن صوتها مازال حاضرا في ذاكرتها وبشدة، خاصة تلك اللحظة، حين كانت والدتها حاملا بعد طلاقها حدثت تلك الحادثة المشؤومة، كانت حاملا بتوأم وكانت هي معها في السيارة، وكأنه جرى الأمس، المناظر، الروائح والذكريات والألم طازج نازف

سائق مخمور، تجاوز في نقطة عمياء، سرعة جنونية، ظهور من اللامكان واصطدام عنيف قطع أحجية تلخص ما جرى

عاش هو، عاشت هي، نجا أخواها وماتت أمها من النزيف

كانت آخر كلمات أمها لعنة لم تستطع منها فكاكا، رسمت طريقها ومستقبلها وحاضرها وماضيها وشخصيتها، قالتها بآخر قوة وآخر نفس مضرجة بدمائها : "ريما، أخواك، أنقذيهما، أمانة في رقبتك هم، هيا يا ابنتي الشجاعة لا تبكي، هيا يا جميلتي" ثم أغمي عليها، ولم تستيقظ مجددا

لم يلحقوها للمشفى في الوقت المناسب، هكذا قالوا، لكن بعد 13 سنة في كلية الطب وبحث دقيق أدركت حقيقة ما جرى، هم وصلوا في الوقت المناسب، لكن لم يكن هناك طبيب نساء وتوليد

ل.آمنة

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات ل.آمنة

تدوينات ذات صلة