قد تطابق الشخصية الأحلام، وقد لا تفعل، لكنها ليست سببا لجعلنا نتخلى عن براءة ما سعينا إليه يوما
وصلت إلى مكان اللقاء، تسابق خطواتها نحو مكان جلوسها المعتاد، لم تستغرب خلو المكان إلا منها فشريك لقاءها اليوم لم يصل أبدا في موعده، جلست ثم أسندت رأسها للوراء وأغمضت عيناها، الهالات السوداء تشي بنوم مضطرب أو أرق تعاني منه، أخذت نفسا عميقا عميقا، رغم برودة الجو واشتداد الريح التي تجعل أسنانها تطقطق، إلا أنها لا تشعر بالحياة تدب في شرايينها إلا بهته الطريقة وفي هذا المكان، لطالما أحبت التسكع هنا في لقاءاتها الخاصة، رغم المعاراضات المتكررة التي تنتهي بالموافقات على مضض بعد إصراروعناد عن موقفها، لا شيء أحب إليها من الاختلاط بالطبيعة والإنصات لحفيف الأشجار والهواء الذي يتلاعب بالأوراق إلا البحر وهدير الأمواج، تصل دوما مبكرة عن موعدها، تتشرب بعض الأوكسجين وتراقب المنظر، التنفس من رئة العالم مباشرة والنظر إلى الاخضرار أو الاصفرار مرفقا بالاحمرار أو الأشجار العارية بعيدا عن الفخامة المتصنعة والمبتذلة وصوت الموسيقى الجالب للغثيان هو خير علاج دائما وأبدا ومهما كانت برودة الجو أو مدى قوة العواصف فلا أريح إليها من جلسة كتلك، تغمض عينيها مقتنصة لحظات سلام نادرة هي سلوى وشحن لها في مواجهة روتين مليء بالصراخ والناس والصخب وكل ما من ذلك
لطالما أحبت الهدوء، ابتعدت عن الصراخ والضجيج ومظاهر الترف الزائفة والفخامة المزيفة، كانت البساطة أسلوب حياتها، ومازالت على نفس المشاعر والشعور، مسالمة كانت لكنها ما تفتأ تكشر عن أنيابها إن اعتدي على حدودها الخاصة، تمسكت بكل ما يشعرها بالحرية والنقاء والسكينة، بعيدا عن كل ضوضاء أو ما قد يسبب ضوضاء، ولهذا سبب اختيارها الوظيفي ضجة عظيمة بين عائلاتها وأصدقائها ومعارفها، كرروا على مسامعها وفي غياباها في كل مناسبة أنها غير مناسبة إطلاقا لهذا النوع من المهن، أنبوها عن تضييعها لحياتها واصفين ما تفعله بنزوة طفولية تبعدها عن تحقيق مسار الحياة الطبيعي الذي يختتم بالزواج والإنجاب كنهاية سعيدة ولكم كرهت هذا التفكير، ظلوا يعايرونها بإخفاقاتها التي تصل إلى مسامعهم كل مرة ناصحين إياها بالتخلي عن الدرب المتعب
والحق يقال، لم يكن طريقا سهلا أبدا، حتى وإن لم تقل هذا، فنحولها الشديد واصفرار بشرتها والهالات التي برزت فجأة على محياها الصافي والتي تزداد شدتها كل مرة وشت بصعوبة ما تواجهه، لكنها كانت قليلة الشكوى كقلة كلامها، قليلة التذمر وقليلة الكلام أصلا
في كل مرة تنفرد بهكذا جلسة، يباغتها شريط الذكريات كفلم سينمائي بمرور سريع، أشياء أفرحتها وأخرى كسرتها وثالثة ضحكت فيها حتى امتلأت زوايا عيناها أدمعا، ورابعة انهارت معها باكية بدون حيلة، لكنها ماكانت تستسلم، آمنت بأن كل مر سيمر وأن الخلاص سيأتي لا محالة، ونجحت في الرجوع أقوى وأصلب مع كل سقطة، وكانت تلك نقطة قوتها، لم تكره الدراسة، لا يمكنها أن تفعل أساسا، فهي وسيلتها الناجعة في الهروب لسنوات من حياة بائسة وقاسية، لم ترحم طفولتها ولا شبابها، لهذا تحديدا آلمها الفشل في هذا المجال تحديدا، لأنه نقطة قوتها الوحيدة، صمت أذنيها عن كل انتقاد، تعلقت بيأس شديد تعلق الغريق بالقشة واليوم تقف على أعتاب النهاية، النهاية التي سطرت لها بداية جديدة مختلفة تماما في مخيلتها وستكون نقطة انطلاقها
لقد أقسمت على التحدي، وهاهي سترفع راية النصر بعد سنوات قلائل، هذا إن تكن قبضة الموت أسرع، سارع الكل في تزلف رضاها، نفس الوجوه التي طلبت منها التخلي ذات يوم، تجاهلتهم كمثل تجاهلها إياهم ذات يوم
مازالت أفكارها عاصفة، تتنفس بعمق محاولة إدخال الكثير من الأوكسجين ليتفتح ذهنها
تفتح عيناها فجأة، رائحة العطر التي ملأت المكان فجأة، ثم وقع الخطوات المسرعة، وكما تثق بسماع المقدمة التقليدية عن مدى عدم ملاءمة مكان اللقاء في هذا الوقت من السنة، تعتدل وتستدير بكل هدوء العالم لتواجه غريمها القادم الذي كانت أول كلماته بنبرة معتدلة تغشاها مشاعر الأسف قالت : "آسفة على تأخري"
تمت
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات