لافتة في ذوقيات الشات والتواصل في ظل دوام الاتصال.
وأنت تتجوَّل بإبهامِك دَاخل مَدينة هاتفِك الذَّكي، تُقَلب بَعض دقائق اليوم أو رُبما مُعظمها في راحَة يدك، تمُر بتطبيقاته فتَقرأ في صفحاتِ الأخبار قَدْرًا يُبقيك على دِراية بمَا يجري حَولك، وَ في ذاتِ الوقت لا يزُج بكَ في سِجن اليأس وَقُيود الإحباط، ذلكَ أن دَّمار الإنسانِ البُنيان المنشور هُنا وهُناك أكثر من مجرّد صورة ضمن إطار!
تَشرُد مُحاولًا أن تؤدِي دَور إنسانيّتك بما هو أفضَل مِن مُشاركةٍ لصورة فيهَا مِن الحُزن ما تَسجُد له العَين باكِية! لِيتزاحمَ عليهَا من كُل حدبٍ وصوب عِباراتُ اللعنَة والغَضب! فَيَقطعُ عَليكَ ذلك تَسللُ رنين الهاتف إلى أذنك عَلى استحياء "موطِني.. موطِني.." بِتكَاسُلٍ تُجيب لتستَمع إلى صديقكَ مُعاتبًا إذ كيفَ يتلقى الرسائل شخصٌ "متصل الآن" دون أن يرد عليها؟!
الاتصالُ بهذه الشبكة سَحَر أعيُننا حيثُ تنقلب بينَ جَنباتِها في ثوانٍ معدودَة بضعة كلمات رَسمها إبهامك حتّى تتلقاهَا عيونُ مَن تُريد بهذه السُرعة المجنونَة! كيف لا، أوليسَ قَد عُلِّقَ عند اسمه لافتة مُتصل الآن!
نَتعاملُ يوميًا مع تطبيقات "الشات" على اختلافِها وها هي تُثبت فعالِيتها وفائدَتها مع تقادِم الزمان وتُسهّل تواصُلنا في شتّى المحافِل، بعد أن مَزّقت الغُربةُ بعضَنا وباعَد السَفر آخرين! ولا تزالُ تذهلنَا بإضافاتِها ومميزاتِها يومًا بعد يوم في تبادل ونقلِ البيانات المُختلفة!
فِي ذات الحِين لا تلبثُ تلطّخ جَمال علاقاتنا، فالكَلماتُ الخَاليةُ من ملامِح وجوهِنا والحروفُ المُجرَّدةُ من نبراتِ أصواتِنا أصبحت أرضًا خصبةً لاحتواء الظنون بأشكالِهَا! والتأخُر في الرد صَار تجاهُلًا مع سبقِ الإصرار والترصّد! والردُ المُختَصرُ على قَدر الحاجَة صَار تعاليًا! والكلماتُ ذاتُ الطابعُ المُتّزن صَارت دليلًا على سُوء مزاج صاحبِها!
أتساءلُ ما الذي يدفعُنا للتحلِيل بعُمق في ما وَراء الكَلمات ومن ثُم تصنيفِ بَعضِنَا بعضًا بناءً عَليها؟!
فِي هذه المدينة الصغيرة التِي بينَ أيدينا هَل تَعني لافتَة "متصل الآن" ضوءًا أخضرًا يأذنُ لِمن يشَاء أن يتحدّث بِما يُريد؟! فَكم من "متصل الآن" لأن الشبَكة الفاتِنة تضمنُ له اتصالًا وهُو نائم!، وكم من "متصل الآن" غارقٌ فِي العَمل! ، وآخر يتناوَل عشاءهُ، و أخرى تتبادَل تسجيلات المُحاضرات مَع زميلتهَا! وكَم من "متصل الآن" يُحاولُ أن يملأ عينيهِ وأذنيهِ من قَريب أو حبيبٍ باعدتهُ عنه المسافات! وكم من "متصل الآن" لا طاقةَ لديه للحِوار! وكم وكم.. الاحتمالاتُ كثيرةٌ بحجمِ الغُبارِ المتناثرِ في هذا الكَون! قَبل أن تتحدث إلى "متصل الآن" إسأله إن كانَ مُنشغلًا، حتّى وإن كَان مُقرّبًا، ولا يؤذينّك اعتذاره إن فَعل.
لَو يَعرفُ الواحدُ مِنّا مِقدار السَّلام الذي سيشعُر بِه حين يعذرُ النَّاس، لعَلِم أنه أحوَج مِنهم إلى ذلك الأمر! إذ لا شيء يعدِلُ الطمأنينة التي تغشى قَلبك حِين تُدرك أن فُلانًا لم يقصِد تجاهلك، والآخر مَنعه مِن السؤال عَنك ظرفٌ ما، و من قرأ رِسالتَك ولم يَرُد عَليها سيرُد حِين يستطيع! وَ تذكّر أنَّ كُل امرئ يتمنَّى حِينَ تَلوِي ذِراعَه ساعاتُ الأيّام أن يُلاقِي مَن يَلتمِس لهُ عُذرًا، فَكُن أنت.
إذ لا زَالت تمنحُنَا الحَياة مَع كُل يوم أنفاسًا بِصحبة الأهل والأصحاب وَلنَا في الجِوار إخوةٌ يُعانون غُربة الروح والجَسد، قَطع القَصفُ والدَمارُ اتصالاتِهم إلى الأبد!
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات