دعوة لفهم الاختلافات بين الأجيال، والتفكير خارج إطار الصواب والخطأ فقط.



أتذكر جيّدًا حين كانت جدتي تصِفُ نساء الحَيِّ بالكَسل، إذ تجلسُ إلى جانب أختها وقد أرخت رأسها على باطنِ كفِّها، وأستحضرُ هيئتها وهي تُحكِم العُصبة وتُعدل "مدرقتها" ثُم ترسُم -وهي تلمُّ قدميها- قلبًا من الحِنَّاء البادية في باطنيهما.. وتبدأ بالحديثِ عن تفاصيل أيامها في عمر الشباب فتذكرُ على مسامع أمي والنساء الأخريات استيقاظها من قبل الديك. ومسيرها إلى عين الماء قبل ولادة الشمس.. وكيفَ استحالت أناملها مناجِلَ في حضرة الحصاد فجمعت السنابل على أكوامٍ تفوقها طولًا، ثم تقاطعها أختها: والخبزُ الذي كان بخور الصباح في بيوتنا، واللسعاتُ التي نلناها من مُصافحة "الصاج"، أما الان فكل شيء حاضر لأمهاتِ هذه الأيام والمخابز والمطاعم في كل مكان. ويظلُّ الحديث على هذا المنوال حتى يختتمنهُ بالحسرة على الشقاء، والخوف من قابل الأيام على جيل لم يكدّ، ولم يتعلم ثمن ما في يديه.


ولا أنسى كذلك كم مجلسًا عقدت أمي مع بناتها، تُحدثنا عن طفولتها وشبابها وعن أمنياتها التي لم تتحقق إلا فينا، عن الغرف المصبوغة بلون الزهور.. عن فرص الدراسة والمكتبات، عن الخصوصية والراحة التي عشناها وحُرم منها جيلها..! ثم ها أنا أسمع وأرى جيلي يتسلّم الراية، وكلما سنحت له الفرصة، يمتلئ بالمقارنات لسانه، قصَد ذلك أم لم يقصده.. تُذكر الدراسة فيلوم الطلاب على قلة تحصيلهم ويتعالى عليهم بالتوجيهات التي لطالما احتاجها هو ذات يوم. وفي أي دائرة انتهى إليها بصره تراه يُعلّق ويُنكر على هذا الجيل أفعاله، ويُحذر ويتهم وينعت. يتشبّث بهاتفه طوال الوقت ويطلب من أبناء الجيل أن يلعبوا بالتراب بدلًا من الأجهزة، يصرُخ عليهم ويكذب في وعوده ثم يغضب لأنهم لم يصدقوا معه! يُخوفهم بالعواقب ثم يتوقع منهم أن يلجأوا إليه إذا ضاقت عليهم الدنيا، يعيّرهم بأخطاء الماضي ثم يدعوهم إلى مائدة لعبة الصراحة!.


أعلم جيّدًا أن كثيرًا من المبررات والأفكار تتبادر إلى ذهنك في الدفاع عن جيلك ومثلها في اتهام الآخر ولكن، قبل أن تحكم فكّر في المعطيات التي تعاطاها هذا الجيل الجديد قبل أن تظهر في تصرفاته التي تراها خاطئة. فكّر في الاحتياجات التي يطلبها الوقت الحالي منهم. فكّر في الأسلوب السريع والنمط المختلف الذي عاشوه، في الطريقة التي عالجت بها الأحداث أفكارهم، أو حلّت بها مشاكلهم. فكّر بأقرانهم وما توفّر لهم من أدوات. فكّر في العالم الذي انشكف عليهم بكبسة زر حتى صارت مفاهيم الصبر والرضا صعبة عسيرة عليهم، فكّر بمستوى تقدم عقولهم في ظل هذا الانفتاح، وغزارة أسئلتهم ومنطقية أفكارهم الغريبة أحيانًا.


لكل جيل أفكاره، أدواته، أولوياته، اهتماماته، عقباته، تحدياته، مشاكله، همومه، وأمراضه. كذلك لكل جيل أحلامه، طموحاته، فرصه، أسلوبه، هيئته، مصطلحاته، وحياته. وكما أنني أفهم بلا أي شك أنه لابدّ من ضابط يضبط كل ما سبق لكنني متأكدة أن هذا الضابط بالتأكيد ليس العرف والتقاليد والعادات. لأنه سيكون حينها نسخة ممن سبقوه مسلوبًا من حريته التي يستحقها، مكررًا لا يُقدم ولا يؤخر. وتذكّر: "كلُّ مُيسّر لما خُلق له".


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات سَنـــــــاء الزيود

تدوينات ذات صلة