"هِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ، مَن سَرّهُ زَمَن ساءَتهُ أَزمانُ"

تخيل أن تملأ حياة أحدهم بهجةً وطمأنينة لوقت طويل. وتمنحه العديد من اللحظات السعيدة التي تخطف الأنفاس وتنذرف معها دموع الفرح. وما أن يشتد عليه أمر ما، أو يحزنه موقف معين منك، تجده يلعب بعدها دور الضحية التي جار عليها الزمن ولم تشاهد من هذه الحياة إلا المرارة. ويدخل في نوبة عميقة من الحزن والسخط عليك وعلى كل شيء. تجده يقف أمامك مكتوف الأيدي ويرمقك بنظرة مفادها: لم أرى منك خيراً قط . وبالطبع أول تعبير سيطرأ على بالك أنه شخص ناكر للجميل ولا يستحق أن تأتيه بالخير مرة أخرى.


حسناً الأمر ذاته يحدث مع ذاكرتنا العزيزة...


ناكرة الجميل تلك؛ تمنحها السعادة، فتفرح بها قليلاً ومن ثم تلقيها بعيداً. أما عندما يقترب منها الحزن فإنها تحكم قبضتها عليه وتكسو نفسها به اكتساء وكأنك منحتها ملابس العيد. تلعب دور الضحية ببراعة تامة؛ فتجدها تبكي كأنها لم تضحك قط، وتشتم أيامها العجاف وكأنها لم تشهد أياماً سمان قبلها. مهما منحتها من مواقف سعيدة بعد ذلك لن تكترث لها لأنه لم يعد هنالك مجال، فالحزن قد شغل المكان، وتربع على العرش. لذلك تجد البؤس يترك أثاره عليك بسببها، أما الفرح تكاد تقسم أنه مر من هنا ولا يصدقك أحد.

ولكن هل اللوم يقع على الذاكرة وحدها أم على الأيام أيضاَ؟ ربما الأيام لم تعد تصنع لنا مزيداً من الفرح لذلك كان الحزن هو ما اعتادت الذاكرة على أخذه، الأمر أشبه ب" أثر النقطة الزرقاء" الذي تحدث عنه مارك مانسون في كتابه (خراب) فقد تحدث عن تجربة قام فيها مجموعة من العلماء بالطلب من أشخاص -جالسين أمام شاشة فارغة ومفتاحان- أنهم إذا رأوا نقطة زرقاء يضغطوا على المفتاح المكتوب عليه أزرق، وإذا رأوا نقطة بنفسجية يضغطوا على مفتاح مكتوب عليه ليس أزرق. بعدة مدة من القيام بهذه العملية وعندما بدأ الباحثون يقللون من النقاط الزرقاء بدأ المشاركون يخطئون ويعتبرون قسماً من النقاط البنفسجية زرقاء "فبدا أن عيونهم تشوه الألوان وتواصل البحث عن عدد بعينه من النقاط الزرقاء بصرف النظر عن عدد ما كان يظهر منها بالفعل." والهدف من هذه التجربة كان معرفة " كيف يقدم الناس على تعديل مدركاتهم بما يتلاءم مع توقعاتهم". وفي ذلك فأنا أرى أن الأمر ينطبق على شعورنا بالحزن والفرح وتخزين ذاكرتنا واستقبالها لكل منهما، فإن كان الألم في هذه الحياة أكبر من الراحة والسعادة، فإن أعيننا ستبحث عن السواد في كل لحظة مهما كانت وردية. وذاكرتنا ستخزن اللحظة التي بكينا فيها بغض النظر عن إذا كنا قد ضحكنا قبلها لساعات طويلة، لذلك تجد الفرح يمر علينا مرور الكرام. ربما نعطيه حقه، لكننا نمنح طاقتنا وتركيزنا كله للحزن.


الشاعر الأندلسي ( ابن زيدون ) كان مدرك تماماً لهذا الموضوع فقد عرف أن الليالي الصافية لا تدوم طويلاً، لذلك كان يدعو لاغتنامها قبل أن تتلبد السماء بالغيوم، وذلك باختلاس المسرة من لب البؤس والشقاء، فكتب البيت القائل:

وَاِغتَنِم صَفوَ اللَيالي إِنَّما العَيشُ اِختِلاسُ


فتجد أن البعض قد أخذ بنصيحته فعلاً وراح يقتنص لحظات السعادة ويعيشها بكل حواسه، ويفعل أقصى ما بوسعه كي يقنعها أن تطيل البقاء، أما البعض الآخر فتجده يقضي لياليه الصافية بالتحسر على ما جرى في الليلة السابقة أو القلق من الليلة التي تليها، ولا يرفع رأسه إلى السماء إلا عندما تكسوها الغيوم ومن ثم يلجأ للتذمر والاكتئاب. وفي هذا نرى أن الذنب لا يقع على الذاكرة وحدها بل أن" جزء كبير من الإخفاق في خلق السرور يرجع إلى الفرد نفسه، بدليل أنّا نرى في الظروف الواحدة والأسرة الواحدة والأمة الواحدة من يستطيع أن يخلق من كل شيء سرورًا، وبجانبه أخوه الذي يخلق من كل شيء حزنًا" وهذا ما قاله أحمد أمين في كتابه فيض الخاطر.


ربما علينا أن ندرب أنفسنا وذاكرتنا على الاحتفاظ باللحظات السعيدة مدة أطول، وعلى منحها مزيداً من الاهتمام....ليس لشيء، ولكن لأن أحد الأشخاص إن شعر يوماً بأنه ضيف غير مرحب به ولا يلقى الاهتمام الكافي، فأول ما سيفكر به هو مغادرة حياتنا بلا عودة، ولا نستطيع أن نلومه على ذلك.


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

❤❤❤❤❤

شكراً أختي ❤️❤️

كل مقال احلى من اللي قبله ...استمري

إقرأ المزيد من تدوينات سلمى عديلي

تدوينات ذات صلة