ما المستقبل المنتظر من أطفال تتأرجح حياتهم بين الاستغلال العاطفي والتجارة بالدموع؟ّ!

نظراً للتطور الهائل الذي نشهده اليوم في مجال التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، نحن على دراية أن منصة (اليوتيوب) تحديداً قد تطورت من مجرد مكان لمشاركة الفيديوهات مع الآخرين؛ وأصبحت عند البعض مصدر أساسي للرزق. وبالطبع نحن لسنا ضد هذا الأمر؛ فالسعي في مختلف المجالات المباحة مطلوب، ومواكبة التطور ومشاركة الأفكار والخبرات مع الآخرين، ونشر المحتويات التي تستحق النشر، جميعها لا يوجد بها أي مشكلة. ولكن هناك قنوات تخصص محتواها لتصوير اليوميات أو التحديات والمقالب، وهي التي أرى أن (بعضها) قد بدأ بتخطي الحدود....

في الفترة الأخيرة، أتيح لي الوقت للتعمق في مشاهدة فيديوهات ذات اتجاهات مختلفة، منها للترفيه والمتعة ومنها لاكتساب الفائدة والخبرة، ولكن السبب الوحيد الذي دفعني لكتابة هذه المقالة هو ما وجدته من إقحام الأطفال في هذا العالم، وبطرق غير مناسبة. شاهدت بعض المقالب التي يتم فيها تعريض الأطفال للخطر والتلاعب بمشاعرهم وإدخالهم في حالات هيستيرية من البكاء والصراخ، ولهدف واحد فقط: الحصول على المشاهدات وكسب المال من دموعهم.

في أحد تلك الفيديوهات، كان محتوى المقلب أن يقوم الأب والأم (وبحضور باقي الأخوة الصغار) بإخبار أحد أطفالهم أنهما تشاجرا وأن أمه ستتركه وتغادر المنزل بلا عودة، بالطبع الأم كانت متحمسة في بداية الفيديو وتقول أنها ترغب في معرفة ردة فعل طفلها على هذا الأمر، وكأن الموضوع سيكون مفاجأة عندما نرى الطفل يبكي ويصرخ ويتوسل لوالدته ألا تتركه وتغادر، وفي نهاية الفيديو يخبروه أنه مقلب فيتوقف الطفل عن البكاء ويبدأ الجميع بالضحك ( مع أن دموع الطفل لا تكون قد جفت بعد) ويطلب من المتابعين أن يضعوا إعجاب للفيديو ليصل إلى أكبر عدد من الناس. المشكلة أن الفيديو فعلاً يحمل عدد لا بأس به المشاهدات والاعجابات! وفي مقلب آخر يسمى على ما أعتقد (الدمية المسكونة) قام به والدين مع ابنتهم التي كان من الواضح أنها لم تتعدى السنتان حتى، حيث يقومان بتحريك دمية الطفلة وجعلها تصدر أصوات ليظهر أنها مسكونة أو أن هناك وحش في مكان ما، وبعدها تبدأ الطفلة بالبكاء والصراخ، وطبعاً أول ما تفكر به هو الهروب واللجوء لوالديها، لكن والديها يكونان في حالة من الضحك على المقلب الذي يعد طريف بنظرهم ويستغربان برؤية ابنتهم في هذه الحالة من الفزع، فيخبروها في نهاية الفيديو هذه الكلمات:" هل أنتِ خائفة عزيزتي ؟! احنا آسفين" . وهم مستمرين بنوبة الضحك طبعاً.


على حسب ما أذكر، فالوالدين كان شغلهم الشاغل حماية أولادهم من الألم والخطر وليس تعريضهم إليه، وعلى حسب ما تربيت عليه، فدموع الأبناء غالية ولا يجوز أن تهدر. طبعاً من وجهة نظر من يقدمون على فعل تلك الأشياء ومن يدعمونهم أن الأمر ليس أكثر من مزاح وترفيه وهم في النهاية سيخبرون الأبناء أن الأمر كان مقلب. ولكن هل فعلاً سينتهي الأمر عند هذا الحد؟ هل سيقتنع الطفل من داخله أن والديه كانا يمازحانه وهو لم يدرك شيء في هذه الحياة بعد، ولم يدخل عالم التجارة والتسويق واليوتيوب؟ ولنفرض أنه اقتنع بذلك، كيف ستكون حالة الثقة لديه تجاه والديه وكيف سيتشكل مفهوم (العائلة) عنده؟ أولئك الأشخاص يقضون معظم أيامهم في تصوير المقالب وتكرار الأمر ذاته، كيف سيثق الطفل أن والديه يخبرانه الصدق هذه المرة ولا يوجد أي كاميرا مختبئة هنا أو هناك؟ وأنه لن يفتح اليوتيوب في اليوم التالي ليجد أن دموعه قد حصدت ملايين المشاهدات؟

وفي حالة أخرى، قد يكون الطفل ليس هو الشخص المستهدف من المقلب ولكن يتم استغلاله لعمل المقلب بأحد والديه أو أخوته، فترى الأب يصبغ شعر ابنه باللون الوردي ليرى رد فعل زوجته، وأم تصبغ وجه ابنها باللون الأحمر والبني لتقنع زوجها أن ابنهم قد تعرض لحادث...... وفي حالة أخرى قد يكون الوضع كله مجرد تمثيل أمام الكاميرا وهنا أيضاً أرى أنه يتم التجارة بالأبناء ومشاعرهم على حساب الشهرة والمال، وإدخالهم في عالم الكذب والتزييف منذ الصغر.

وعلى الجانب الآخر من المقالب هناك التحديات التي يستدعي بعضها إلقاء وعاء مليء بالماء على رأس الطفل، وإلزام طفل آخر بتناول أطعمة فوق طاقته، وهناك أم تقوم (بدهن) وجه طفلتها الرضيعة بمساحيق التجميل كي تقوم بتصويرها ونشرها على وسائل التواصل الإجتماعي.

وهناك فئة تخصص محتواها لتصوير يومياتها العائلية، تلك التي لا يتنازل الآباء فيها عن خفض كاميراتهم لبعض الوقت كي يتركوا أبنائهم يتصرفون بحرية وعلى طبيعتهم. تخيل في إحدى الليالي أنك كنت في حالة من الإعياء والمرض الشديد، ثم يأتي أحدهم ويضع كاميرته في منتصف وجهك ليسألك، هل تشعر بتحسن؟ أو (سلّم على الجمهور وطمنهم عنك). اهتموا بأولادكم بدلاً من تصويرهم ونشرهم على الملأ.

لم يعد هناك خصوصية للطفل ليخبر والديه بما يريده أو يشعر به، فقد كان الفرد منا يخبر والديه بشيء ويغضب بعدها إذا علم أن أحد من الجوار قد علم بالأمر، الآن أي شيء ستشاركه مع والديك سيعلم به 5 أو 6 ملايين شخص حول العالم. فإذا حصل الطفل على علامة سيئة رفعوا كاميراتهم وصوروه وهو يتلقى التوبيخ، وإذا علموا أن أحد الأشخاص المقربيين منهم قد توفى، رفعوا كاميراتهم وصورا طفلهم وهو يتلقى الخبر ليشاركوا العالم رد فعله عند سماع الخبر. لماذا يكترث الآخرون برؤية طفلك وهو يبكي على وفاة أحدهم من الأساس؟!

العجيب في ذلك كله هو الأرقام الخيالية من المشاهدات والإعجابات التي تتلقاها هذه الفيديوهات، وهو الأمر الذي يجعل هذه المهزلة تستمر وتطول، حتى وإن كنّا لا نوافق على ما يفعلونه وإنما نكتفي بالمشاهدة بدافع الفضول، هذا يعني أننا بشكل أو بآخر نقوم بدعمهم.

نحن لسنا ضد الترفيه والمزاح ولا ضد المقالب الطبيعية المسالمة التي لا تشمل الإساءة للأطفال أو انتهاك خصوصيتهم، ولكن الأمر قد أصبح خارج السيطرة وتحول إلى هوس، وقلة الوعي والإدراك لمدى جدية الأمر وخطورته ستزيد الأمر سوءَا. فإن كان الهدف من الزواج قديماً تكوين عائلة وإعمار الأرض، حالياً يتزوج المرء حتى يتسنى له فتح قناة على اليوتيوب يدمر بها الأرض.

بإمكانكم القيام بما يحلو لكم من مقالب متهورة وخطيرة، وإن أردتم يمكنكم إلقاء أنفسكم من النوافذ أو حبس أنفاسكم تحت الماء لساعات طويلة من أجل مقلب، لا أحد سيوقفكم عن هذه الأفعال طالما أنكم لا تكترثون بحياتكم وتخاطرون بها من أجل الشهرة والمال، ولكن دعوا الأطفال خارج هذه الدائرة المظلمة، فلربما تكون لديهم الرغبة في اختيار طريق آخر يحافظون فيه على حياتهم الطبيعية وخصوصيتهم.


قد يكون الأمر مبالغ فيه للبعض ولكن من اطّلع على هذا النوع من المحتويات من قبل سيدرك معنى هذه الكلمات. فنحن تعدّينا زمن عمالة الأطفال وإرسالهم للطرقات حتى يتسولوا، الآن نحن نجعل منهم مهرجين على الملأ من أجل بعض (اللايكات).




ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

وعليكم السلام، شكراً جزيلاً لك ❤️❤️

إقرأ المزيد من تدوينات سلمى عديلي

تدوينات ذات صلة