قصة قصيرة تُحاكي سيطرة التكنولوجيا على عقل الإنسان وقلبه بالإضافة إلى أنها تدمي بصيرته نحو صغائر الأمور


الجزء الأول

الجاثوم التكنولوجيّ



كنت أُحبّ أنْ ألعب بأوراق الشجر التي تقع محتضنةً أرصفة الطرق، وكأنها تقول سأعود بعد انقضاء الشتاء الطويل، اسمُكِ وُريقة وأخوكِ غُصَين و والدُك هو الجذع أما والدتك هي التي تمتد بجذورها لتثبتكم من أقصاكم إلى أدناكم،

وبعد يومٍ مليءٍ بالتراب أعود لأستقبل التوبيخ اللذيذ من أُمي.. أجل لذيذ، وما الغريب في ذلك !

كنت أقضي اليوم وحدي، بحكم أنّ لدي أخٌ رضيع لا يمكنه أن يلعب معي، أفعل ما أشاء بُغية الاستمتاع فأعود في نهاية اليوم في غايةِ الفرح..

منذ متى وأنا أكتب تلك المذكرات؟ يبدو أنني قد نسيت ذكرياتي في أول عقدٍ لي أو بالأحرى تركتها على رفّ الغرفة في آخر يوم قبل ذهابي إلى المستشفى.. فقط أشعر بحرارة وجهي وبالعروق الحمراء التي تتصافح في عينيّ ويدي المغطاة بألصقة لا أعرف ماهيتُها، وداخلي يتخبط؛ ليذكرني قائلًا : إنّه وقتُ الجرعة.

لم أعرف أنني سأُصاب بمثل هذا المرض، الإدمان، الانفلونزا التكنولوجية.. يمكنك تسميته كما شِئت، كان إهمالي لنفسي سببًا في التغيّر الذي آل إليْ، تغير لون جسدي إلى لونٍ رمادي نفذ من سيطرة اللون الاسود جرّاء ضرر إمساك الهاتف، كأنني ابتلعت ظاهري الجميل ولم أُبقِ من ملامحي سوى الظلام الدامس.

- المريضة (راء. زيْن) حان وقت جرعتك لهذا اليوم، اسمحِ لي بتقويم وسادتك.

- اسمي روز يا (روبوت ثمانية آلاف)، هيا أقبِلْ!

- إعذريني على الخطأ لكنني على وشك أن أصبح روبوتًا مُسنًا بحكم أنني أقْدَمُ نوعٍ بين هذا الكم الهائل من المصنّعين، فأنا أتبع إلى الجد الأول ذي الجنسية السعودية روبوت صوفيا !

- حسنًا سأسامحك هذه المرة فقط.. قلتُها ضاحكةً، لا تقل هذا أنت تساهم في شفائي منذ ثلاثة أشهر، وأرى تحسنًا كبيرًا بفضلك

- اندهش مبتهجًا وقال: حقًا ! الفضل لي؟

- أجل أيها الرائع، والآن أعطني جرعة الإنترنت؛ ففي الفترة الأخيرة أصبحتَ تبخل عليّ في الكمية التي اعتدتُ عليها

- إنها أوامر الشفاء رر. وْ. ز

الغرفة تخلو من البشر، كلٌّ معزولٌ عن الآخر، منذ ثلاثة أشهرٍ وحتى اليوم لم أتعامل سوى مع ( الروبوتات الآلية) والطبيب الذي يظهر بواسطة شاشة مرئية أمامي، فمن شروط الرعاية الحثيثة لهذه المستشفى ( مستشفى احتضان الادمان التكنولوجي) "عليكَ تغيير المحيط الذي اعتدتَ عليه ذلك يعني من البشر إلى الآليين؛ لأن هذا سيسهم في التخلص السريع من أثر الانترنت على جسدك المنهك"، و كأنه كالجاثوم الذي يرخي أشلاءه الثقيلة عليكَ ولا تستطيع الحراك أبدًا..

أحاول أن أُلهي نفسي بأي شيء ومعَ أنني أفشل بالرسم إلّا أنه كان دميتي الوحيدة هُنا، فرط التفكير يجعلني أعاني الصداع طوال اليوم حيث تصبح ضربات قلبي غير اعتيادية وما إن رافقني تسارع النبض ظهرت الشاشة المرئية والطبيب فيها يتحدث:

- دمتِ بقوة مريضتنا روز كما عهدناكِ، آمل أن تكون ضربات قلبك على ما يرام، لا تجعلي التفكير محور يومك فلو أنني عقلك لنزعت نفسي و هربت، رويداً رويداً على نفسِك !

ستخرجين بعد بضع أيامٍ بإذن الله، وتسترجعينَ مجد حياتك الطبيعية.. ففي آخر فحص لكِ اتضح لي أن مقدار التحسن فيكِ يزيد بشكلٍ ملحوظ على غير المرضى الباقين فقد استطعتِ نيل كأس الشفاء، راقبتُ حالتك فور دخولكِ إلى هنا ولهذا اليوم، التشوه في راحة يديك إثر ذوبان بطارية الهاتف عليها.. بدأ يلتئم، أما بالنسبة لعينيك فسأكتب لك وصفة طبية لشراء قطرة ضعف النظر فالاشعاعات الضارة سكنت في القرنية خاصتك وأضعفتْها، بغضون خمسة أشهرٍ سيتحسن نظرك دون الحاجة إلى ارتداء نظارات طبية، وأخيرًا إرادتك العالية التي أظهرت نفسها في تحويل نسبة الإدمان من مئة في المئة إلى ثلاثين في المئة، لم يبقَ إلّا القليل ..

اتسعت عيناي حتى شعرتُ أنّ أوردة لساني تشابكت مع بعضها ولم أنطِق ببنت شفة .. كنتُ أنتظر هذا اليوم بفارغ الصبر لأرى بذور التحسن في جوفي تنمو، قارب وقود المرض هذا على النفاذ.. لأعود كما كنت،


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

Woou! 🔥💜💜

إقرأ المزيد من تدوينات راما الرجبي

تدوينات ذات صلة