اجعل لك خبيئة معروف وبادلها…ولا تستبدل نقاء روحك بشوائب قد تؤذيها🤍
"يستصرخه" نظن للوهلة الأولى عند سماع أو قراءة هذه الكلمة، أن قائلها يقع في مأزق شديد وأنه غارق في محنة كبيرة، وقد يكون على هامش نتائجها خسائر بشرية ،ستشعر وكأنه يلتقط أنفاسه الأخيرة وأن عنقه محصور بين قبضتين غليظتين…
لكن للحكاية اتجاه آخر ورواية لم نسمعها قط، وليس كُل مُستَصرِخ مظلوم…
في البداية وردت هذه الكلمة في سورة القصص من كتاب ربي العزيز في قوله:
{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ۚ}
ولا شك أن الله سبحانه وتعالى اختار لهذه الكلمة التعبير المعجز ليصف حال أحد الرجال الذي استغاث بنبي الله موسى عليه السلام والذي سأفصل عنه في مقالي هذا، وصور لنا من خلالها تفاصيل شخصيته تصويرًا بالغًا وجسدها تجسيدًا واقعيًا…
كما نعلم أن موسى عليه السلام هو كليم الله، ولقد اتسم بصفات كثيرة جعلت منه أهل لهذه المكانة، منها ما ذكره الله في كتابه الكريم من قوته الجسدية والروحية، وبيان ذلك أنه عليه السلام
كان ذات مرة يسير في المدينة فاستغاثه رجل من بني إسرائيل كان يقتتل مع رجل قبطي، ومن شدة قوة موسى عليه السلام سارع لنصرته فوكز الفرعوني وكزة بهدف إبعاده عن الإسرائيلي، فانتهى به الأمر قتيلًا بين يدي موسى عليه السلام…
أثارت هده الحادثة ضجة كبيرة في وجدان موسى فأصابه الندم، واستثارت غضب ضميره الحي، فما كان له إلا أن يصاب بالذعر حتى أصبحت خطواته ثقيلة وحمل الخوف بات ثقيلًا وشدة التفكير جعلته في طرقات المدينة على خوف يترقب المارّة..
فجأة في ظل زحمة مشاعر الخوف التي تمكنت من موسى عليه السلام… وإذا بشجار جديد، للرجل ذاته مع فرعوني آخر…
في هذه اللحظات جاءت الاستغاثة فما كان من الرجل القوي الأمين إلا النصرة… ولكنه وأخيرًا تحدث موسى فقال له:
{ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} فسار نحوه لفك النزاع بينهما ولكي لا يبطش أحد منهما بالآخر..
بعد هذا الوصف انتقل حس الخوف من قلب موسى إلى قلب الإسرائيلي فظن أنه يريد أن يبطش به بدل أن يبطش بعدوه… فنطق بكلمات مسننة جارحة..
{قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين}
فابتدأ الإساءة لموسى باتهامه بالقتل وجاء بتشبيه لا يليق بشهامة موسى عليه السلام فجعله والجبابرة سواء، وجعله و قتلة النفس بغير النفس أشقاء…
وقابل معروفه بإساءة..
واختتم إساءته لموسى بإلصاق تهم خبيثة بنواياه، فأشار بخباثة أنه وحاشاه لم يكن موسى عليه السلام ليريد الإصلاح واتباع أمر الله.
لكن توابع الإساءة استمرت وكان لها أثر سلبي كبير،
وكادت أن تودي بحياة كليم الله، أتمعنتم بالكلمات السامة التي ألقاها الإسرائيلي على مسمع موسى عليه السلام؟! وتحديداً {كما قتلت نفسًا بالأمس}
كانت هذه الكلمات غنيمة عظيمة اغتنم بها الفرعوني فأخذها وأفشاها في القوم، حتى أصبح كل من في المدينة عاشق للثأر محفوف بشرارة القصاص لقتيلهم..
في هذه الأثناء اضطر موسى للفرار إلى مدين لتبدأ مرحلة جديدة من حياته مكللة بالسعي تلاها بعشر سنوات تلقيه للرسالة الإلهية…
أتظن أننا انتيهنا يا صديقي؟!
الآن نبتدأ موضوعنا، خذ نفسنًا عميقًا أو فسحة قصيرة وأكمل معي مقالي…
بعد مرور عشر سنوات من أحداث القصة، أترى أن موسى قد نسيها؟ لا بل إن أحداثها كُتِبَت في صدره واصطحبها معه لليوم الآخر، فمن شده حيائه وخجله وأخلاقه الرفيعة رغم أنه لم يقتل القتيل إلا خطأ إلا أنه نادم على فعلته ويلقي اللوم على نفسه وشيطانه…
أما عن التبعة التي لم نتحدث عنها فهي أن الإساءة أحاطت به من كل اتجاه، وبعد ان عاد عليه السلام نبيًا
، اتخذ فرعون والملأ حادثة القتل الخطأ حجة على موسى كما في قوله تعالى:
{وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}
أترى يا صديقي كيف أن الله قص علينا في كتابه الكريم من القصص ما يساعد وعينا وتفكيرنا على السير على الطرق الصحيحة..
لم يرد في القرآن الكريم أي ردة فعل من موسى مقابلة لإساءة الإسرائيلي له، لم يرد أنه وبخه أو عنفه أو جره من لحيته ورأسه كما فعل مع أخيه هارون، رغم أنه عُرِف عنه عليه السلام أنه شديد قوي، ولكن ورد عنه أيضًا أنه كان من المخلصين، فأخلص لربه
وأخلص بنواياه فلم يجعلها تختلط بنوايا للانتقام أو الاقتصاص.
وهذه لم تكن الإساءة اليتيمة التي تعرض لها موسى عليه السلام من أشياعه، وأعظمها عبادتهم العجل بعد أن نجاهم الله من بطش فرعون، فكانت أكبر ردة فعل لنبي الله أن يلقي الألواح وأن يصب غضبه في قلب أخيه هارون الحليم.
ولم يكن من عادة الأنبياء أن يردوا الإساءة بإساءة، بل كانوا أهل المبادرة بالمعروف،
وورد في ذلك نصيحة إلهية جميلة في قوله تعالى:
{فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }
العفو والمغفرة والصفح من أسمى صفات الإحسان، الذي أمر به الله جل جلاله،
ومن الجميل أن نحتفظ باسم الله الودود وأن نحاول بجهد إحصاء هذا الاسم، واقتطاف ثمار الود من محاصيل التعامل اللطيف مع الغير…
ولا تظن أبدًا أننا بذلك قد نزج بأنفسنا في خانة الضعف… بل ولأن الله عزيز ذو انتقام نستطيع امتداد القوة منه جل جلاله وترك مقاليد الأمور والانتقام الإلهي له تعالى،
للذي خلقنا وأحسن تدبير أمورنا🤍
وهذه كانت نصيحة والدتي حفظها الله بعد أن ذكرتني بما حصل مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه…
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلًا شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْجَبُ وَيَتَبَسَّمُ ، فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَ ، فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ ، غَضِبْتَ وَقُمْتَ ، قَالَ: " إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ ، فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ ، وَقَعَد الشَّيْطَانُ ، فَلَمْ أَكُنْ لِأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ "
.
ثُمَّ قَالَ: " يَا أَبَا بَكْرٍ ثَلَاثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ: مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلَمَةٍ فَيُغْضِي عَنْهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، إِلَّا أَعَزَّ اللهُ بِهَا نَصْرَهُ ، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ عَطِيَّةٍ ، يُرِيدُ بِهَا صِلَةً ، إِلَّا زَادَهُ اللهُ بِهَا كَثْرَةً ، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ ، يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً ، إِلَّا زَادَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا قِلَّةً " .
أما عن آدميتي في حب الاستطلاع ومعرفة الصواب من الخطأ فقد دفعتني لطرح سؤال على بعض الأصدقاء سأشارك أجوبتهم في مقالي هذا ليكون لحروفهم نصيب من حروفي✨
كان سؤالي المطروح : ("بشفافية"، أخبرني بردة فعلك تجاه من يسيء إليك) فكانت بعض الأجوبة كما يلي:
ج١. بالسب والشتم
ج٢.غالبًا التجاهل، إلا في حال واحدة إذا زادت الإساءة عن الحد فسيكون هنالك أسلوب آخر
ج٣.هناك أحيان أواجهه فيها وأحيان أخرى أتجنب ذلك، على حسب الموقف، ولكن من المؤكد أنني أقطع حبال الوصل بيننا وأهمل وجوده
ج٤.عدم إظهار أي اعتبار أو أهمية لرأي الذي يخاطبني
ج٥.أشكيه لله، وأنتظر أن يأتيني بحقي ولو بعد حين
ج٦.أبدأ بالبكاء
ج٧.أعامله باحترام فقط
ج٨.اذا كان المسيء شخص يهمني أعاتبه مرة واثنتين وثلاثة،أما اذا تكررت اساءته أسير في طريقي من غير عتاب ولا سؤال ولا أي ردة فعل
ج٩.ألتزم الصمت والبرود لتهدئة الموقف، وأرد بعدها ردًا مناسبًا في الوقت المناسب
ج١٠.ليست كل المعارك تستحق بعضها نعم وبعضها الآخر لا .
اتضح لي بعد أن قرأت العديد من الأجوبة
أن تفكيرنا يصب في نهر واحد وأن للفطرة السليمة دور كبير في تحديد ردات فعلنا.
وأنت يا صديقي القارئ ما رأيك؟
نلقاكم في مقال جديد مع قصة وآية جديدة.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات