ما بين التخصص والشعور فاصلة واحدة فقط وضعت بينهما لتدل على تشابه ما قبلها مع ما بعدها ولتؤكد أن ما بعدها هو جزء منها…
بدأت رحلة اكتشاف تلك الجزئية من الكون في العام ٢٠١٠ في صف من صفوف مدرسة زنوبيا الابتدائية في يوم خميس في الحصة الثالثة، كان نهارًا غائمًا بشكل جزئي حيث ان الشمس كانت تعاتبه بين الحينة والأخرى، وكان كل من في الصف يحدث ضجة ما بعد الفسحة، حتى فتحت الباب معلمة الرسم، المعلمة سوسن ذات الطول المرموق والجلباب كحلي اللون الذي ترتديه مع حجاب ابيض بهي، مبتسمة ابتسامة عريضة مصحوبة بلطافة حاجبيها..
في تلك اللحظات كان في الشعبة من قد جهزوا دفاترهم الخاصة والوانهم الخشبية ووضعوا قلم الرصاص على حافة الدفتر للشروع بالخطوة الأولى..
كانت صغيرتي تحدثني وتتمعن في تفاصيل الورق
وكانت تحب ان تقتني باهضة الثمن منها ظنًا منها أن جودة رسمها ستكون أفضل بكثير..
تدقق في ملمس الورق ووزنه والكثير الكثير من معاينات أقلام الرصاص وجودتهم…
اما عن المعلمة سوسن فكان لها دور في وضع خطة مكينة ترتكز عليها أهداف الصغيرة، فعادة ما كانت تثني على خطها الفريد، وتكلل الجهد برؤية مستقبلية تبوح بها بحروف معدودة..
وللصغيرة صديقة في الظرف، شاركتها في الرسومات والابداع والمدح وغيرها..
كانت اماني وصغيرتي محطة صغيرة كمكتبة مهمة تحوي الكثير الكثير بحوزتها، حتى أصبح زملاء الصف يستغلون لطافتهما وابداعهما في آن واحد لإنجاز واجبات الرسم المطلوبة…
كانت ألوان أماني حافزًا للصغيرة منذ البداية، وكانت تنظر لقلمها بنظرة حب و أمل احتراف عاجل..
بلغت الصغيرة اربعة وعشرين عامًا ، وما بين مقعد الدراسة في العاشرة من عمرها ويومنا هذا، اربعة عشر عامًا من الشعور…
في يوم ماطر ،سيارة عائلية تتجه نحو دمشق، وصولاً لازمات الطرق تتركها مع بناء مشيد تزينه شرفٌ أصيلة، ومع غروب الشمس تأسرها تفاصيل حديقة تشرين وتسحرها فيسفساء الأموي، تفاصيل الظل والحر والهواء الذي تشعر أنه لازال يتدفق من الزمن الأموي، وممشىً هنا ومستراحٌ هناك ، حتى أصبح للمآذن في فؤادها أرواح تتحدث…
تعود في المساء عابرة من بصرى وقصور بصرى وجمال أسوارها، حتى تصل إلى النعيمة فتجهز نفسها قبل المرور من جانب مدرستها الأولى التي كانت تتعجب من اصطفاف أدراجها ومسارحها ومساحاتها الخارجية..
فتصل الى دوار الحمامة بعد دقائق معدودة، مرورًا بالشواع ليلًا مع برودة هواء فاتنة وانارة شوارع خافتة تحفها الأشجار من كل جانب..
تلك المساحات والذكريات والأحجار هي التي جعلت من الصغيرة ثائرة، ترتبط جذورها بأحجارها بشرفة منزلها التي تطل على مدينة درعا بجنوبها المرتبط بالحدود الأردنية ،ولها مواعيد مع فجر يوم العيد ومغرب رمضان لا تفوتها البتة… مستمتعة بحديقة المنزل والديكور الداخلي وغيرها..
فتثبت الشعور اكثر بعد هجرتها، وأيقنت أن الحنين للمكان لا للزمان..
وفي محطة ما انحدرت فيها الاتجاهات ومالت فيها الخطوات بعد ان كانت قد قررت أن تتجه أكاديميًا باتجاه تخصصات طبية…
حتى جاء أمر الله وارتأت ان الشعور القديم لازال يطرق بالفؤاد ليذكرها بوجوده.. وكانت مشيئة الله وقدره أن تدرس تخصص العمارة في جامعة من الجامعات على أرضه الواسعة..
في هذه الأثناء حاولت الشابة التي أنا عليها اليوم أن تكتشف السر العجيب بين حبها للأشكال الخارجية للبناء، لكل تفصيل وكل زخرفة تشدها لعالم آخر..
في سفرها وسياحتها وترحالها كانت عادة ما تلتقط الصور التذكارية للبناء حصرًا بألوانه المتعددة وأشكاله المميزة لشبابيك هنا ولطابق علوي مكشوف هناك..
تختلس النظر للمواد المستخدمة في البناء وتحاول مرارًا لمسها…
و مع مضي السنة الأولى من سنوات الدراسة الجامعية ومع امتحان تاريخ العمارة تأكدت أن العمارة والشعور هما وجهان لعملة واحدة..
إذ أن العمارة نشأت مع وجود الإنسان واتخذ الإنسان من العمارة مخبأ له من الوحوش الضارية ومن برد طقس قارس وهبوب رياح شديدة الحرارة..
احت الانسان بالكهوف واتخذ من تضاريس الطبيعة ملجأ له حتى وجدت أول قرية في التاريخ، وهي قرية Çatalhöyük التركية والتي صنع أهلها فيها منازل طينية من دون أبواب او نوافذ وكانو ينتقلون في ما بينهم عبر فتحات في السقف…
وتطورت بعدها العمارة عبر العصور حتى أصبحت في العهد الروماني من أهم العلوم البشرية…
حتى وصلنا الى يوم من ايام قرننا هذا هذا وفي موعد كان لي مع معيد لمادة التنمية الحضرية أخبرني بأهمية الشعور وكيف أن المساحات في المدن يتم حسابها وتخطيطها ووضع مكانها بناءًا على شعور المرء تجاهها، وكيف ان لارتفاع البناء وطوابقه دور كبير في البيئة التي يعيش فيها المرء…
وكثير من المواد التي تعلمت من خلالها كيف ان للضوء وللظل وللمادة المستخدمة ولمساحات الغرف ولترتيب الأثاث فيها، أدوار عظيمة في جعل من هذه الجدران المحيطة بنا عالم خاص مليئ بالحنين والذكريات🤍
يُتبع…
التعليقات