بعد كل هذه السنوات لم تعد أمي تستطيع أن تفكر في نفسها أولاـ، أن تحب نفسها أكثر، و أن تخاف على صحتها قبل كل شيء.

عثرت اليوم على صور يعود تاريخها إلى ما قبل سنة 1995. تحمل هذه الصور ذكريات أمي حين كانت طفلة فشابة فإمراة، ذكريات حافلة بالتواريخ التي لم تنساها أمي وحافلة بالأشخاص الذين، رغم أنها لا تتذكر أسمائهم الآن، إلا أنها تتذكر آثارهم في حياتها.

أمي التي تبدو في كل الأيام مرهقة و شاحبة، تبتسم عينيها و تختفي تجاعيد وجهها كلما نظرت إلى هذه الصور، وكأنها بنظرة واحدة تعود إلى تلك التواريخ السوداء لتنير بها ظلمة هذا الحاضر. بين الصورة و الأخرى تلتفت أمي إلي و المهجة تعلو وجهها كي تذكرني كم كانت سعيدة و كم كانت جميلة، وكم كانت رفقة الماضي مسلية و ممتعة، و كأنها تخبرني بأنها تركت خلف تلك الذكريات حياة كاملة، وكأنها تخبرني أن التي تقف قبالتي الآن شخص آخر.

بعد رحلة طويلة بين تلك الصور المليئة بالحياة، أعود بنظراتي إلى صاحبة تلك الصور التي تبدو غريبة عني و كأني لا أعرفها، و كأني لم أعرفها يوما، و هي في الحقيقة أمي، أكثر شخص أعرفه في الوجود. فجأة أدرك أن أمي التي كانت دوما تخبرني بأنني سعادتها في الحياة، كانت أسعد من قبل أن تنجبني، من قبل أن تحول الحياة ذكريات أمي إلى مقبرة محزن العودة إليها، فهي ليست فقط مليئة بالشوق و الحسرة، لكنها أيضا مليئة بتلك السعادة التي تفتقر إليها أمي الآن.

تفقد المرأة الكثير من الأشياء بعد النضج. تفقد حريتها، أحلامها، و ذكرياتها، و أهم ما تفقده المرأة هو إسمها. بمجرد أن تنضج المرأة حتى تصبح في مجتمعنا، إبنة فلان، ثم زوجة فلان، ثم أم فلان. يندثر ذلك الإسم الذي إقترن بها مع الذكريات، كحال أمي التي أنسى أحيانا أنها في زمن ما كانت في نفس عمري، كانت عفوية و طفولية، سريعة التعلق ثم سريعة التخلي. أحلامها كثيرة و هفواتها أكثر، سريعة البكاء و سريعة النسيان. أمي أيضا كانت محاطة بالأصدقاء، معهم كانت تمرح و تحلم و تقترف الأخطاء، إلى أن نضجت أمي و صار كل شيء حي داخلها ذكرى بين الصور، إلى أن صارت أمي إبنة يوسف و زوجة فاضل و أم عزيز.

أحيانا أنسى تضحيات أمي، و لا أستطيع أن أتوقف عن طلب المزيد، رغم أني أعلم بكل الظروف التي نمر بها، لأنني تعودت عطاء أمي اللا مشروط. تعودت أن أسرق من عمرها وقتا لم أدرك قيمته إلا وأنا أكتب هذه الكلمات، لأتذكر أن أمي بعد سن العشرين، منحت كل ما تبقى من عمرها من أجلنا، منحتنا عمرا مليئا بالتضحيات، وقد ماتت تلك الطفولة التي كانت داخلها لتحل مكانها نرجسية الأمومة، التي تقنع كل إمرأة في الكون أن العطاء يبدأ بحرمان نفسها من الحياة.

أمي، التي تبدو في الصور كالربيع الهادئ، تقضي الآن معظم وقتها في متابعة دراستي أنا و إخوتي، في الطبخ و التنظيف و غسل ملابسنا و شراء مقتنيات المنزل، هذا إلى جانب عملها اليومي خارج البيت حتى تتمكن أخر الشهر من أن تشتري لنا كل ما تشتهيه أعيننا. هذه المرأة التي أعرفها، مرفوعة قامتها بكبرياء الأمومة التي تشعر بها، شعور كفيل بأن يغطي بياض شعرها و قد زال منه لون الصبغ، و أن يمحو تجاعيد وجهها لتظهر آثار التضحيات من بين تلك الخطوط. هذه المرأة التي تقف أمامي الآن، شتاء صامت.

و رغم كل ما تمر به أمي من تقلبات، فإنها في أغلب الأوقات تبدو سعيدة. لكن سعادتها في الحقيقة ليست ملكا لها ولا فيضا من نبع مشاعرها. إنها سعادة أبي، سعادتي أنا و سعادة إخوتي.


Oumayma Farhat

ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

هكذا هي الحياة لا راحة فيها قال تعالى ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ أي: مشقة و تعب ، وقال عليه الصلاة والسلام{ إذا صلَّت المرأةُ خمسَها وصامت شهرَها وحفِظت فرجَها وأطاعت زوجَها قيل لها ادخُلي الجنَّةَ من أيِّ أبوابِ الجنَّةِ شئتِ}...
ثم إن المرأة لا عيب في ان تكنى ام فلان .
فالرجل يكنى بأبي فلان .

إقرأ المزيد من تدوينات Oumayma Farhat

تدوينات ذات صلة