حَسِبْتَ نفسكَ المَنسِيَ الذي لن تحِلّ على أي ذاكرة فرغبتُ أن تُحفظَ في ذاكرةِ الحروفِ ، لذا خَلّدتكَ كتابةً ،أحببتُ أن يرصُدَ قلمي ذلك المشهد الأخير..
أين أنتمي؟؟؟ بعينانِ شاردتان في الفراغ أطرح هذا السؤال مرارا .....شعور عدم الانتماء وحده يجعلك جسدا دون روح، لذا أَحسبهم كانوا يُدركون ذلك وهان عليهم جسدي ، كانوا يعلمون بأنه لا روح في هذا الهَرِم البائس، وأنا كان عليِّ أن أفهم وأذهب منذ البداية لأنه لا انتماء لي.....
أسْتسمحكم جميعا لأن ما سأحكيه سيكون ثقيلا على مسامعكم ... ولأنزل عليكم بعض الأثقال و أكون أكثر تفهما مع أن الحياة لن تكن كذلك معي ....سأريكم مشهدا فقط من الفيلم......نعم هكذا أحْسبها حياتي كانت فيلماً سُجِّل بِحكبة واحترافية مبالغٌ فيها ....كان فيلما كل ما فيه مأساويٌ بحق ،ولأن الألم والفقدَ تكرّر في مشاهد كثيرة ، فالمشهد الأخير كان يُتَوقع نهايته.....
لن أترك النهاية مفتوحة .... لكني لسبب ذكرته كوني لا أحب أن أُثقل عليكم المشاهدة ...عمَدتُ تركَ البداية مفتوحة .
صحيح أن الفيلم فيلمي ... لكني لم أكنِ البطل فيه ،
فحياتي لم تكن لي، لم يكن لي نصيب منها سوى التعاسة، كنت المقدمة الغير مكتوبة... التي لن يقرأها أي أحد ..ربما لأني كنت الهامش المنسي في الحياة وفي العالم ككل ... .... شعورٌ مؤلم ان تعيش وحيدا تطير خارج السرب لكن، أنا لم أكن أطير أصلا ، بل كنت مقصوص الجناحين منذ نعومة أظافري .... لذلك لم يكن لي أن أفكر يوما بالطيران ...والعيش مثل أقراني ..
لن أُطيل الحديث هنا بأني منذ فتحت عينيّ، لم أجد سوى الفقد يرمقني... وأني عشت وحيدا بلا أبوين لأن الحديث عودة مؤلمة بالذاكرة وكم بحثت كثيرا عن مكان أدفن فيه ذاكرتي ....
لذلك سأقفز إلى أواخر ثلاثينياتي ... بعد أن أنهكتُ جسدي في طلب لقمة العيش ..... كنت متشبثا بعملي و أعمل بمشقة بعد أن وجدت بصعوبة ما يؤويني من برد الليل وما أسد به حاجتي من الطعام ، ولأني لم أكن مشرد الجسد فقد بل كنت مشرد القلب .... فتجدني هائِما به.... لم أجد ما يدفِئُه أو يسدُّ جوعه ..... قليلٌ جدا من يعرف جوع القلب للأمان ...للانتماء... للحب ، إنه جوع مشاعر ولا علاقة له بالماديات، ولأني أعيش وسط مجتمع غني الجيوب فقير المشاعر .... اعتصر قلبي جوعا حتى مات ....
لم أشعر بشيء حينما تم تشخيصي بمرض السكري لأول مرة ، لأني كنت أرى بأن لجسدي الحق بأن يعطي ردة فعل ، وأَن يعكس هو أيضا جزءا من المعاناة التي أعيشها ...
نعم الحمد لله أنه ليس سرطانا أو مرضا خبيثا آخر يحددُ فيه الطبيب عمري المتبقي ،وإن كان كذلك فلن أشعر بالسوء ، ولكن ستزداد ثِقل الأيام المتبقية عليّ، و مطالبة نفسي بعيش أيامِي الاخيرة على خير حال ،وانا لست على قدر هذا الطلب ....
والحمد لله مرة أخرى ومرات كثيرة ، لأنه لم يكن لي أحد... سوى أنّه بعث لي بشخصٍ ....فأنا أثق بأن الطيبين مثلهم مثل السيئين موجودون في هذا العالم وسنقابلهم لا محالة، وذاكرتنا لن تنسى أحدا منهم فمنهم من يَتركُ أملا ومنهم من يتركُ جرحا ...
كان طبيبا.... هو من تكفّل بعلاجي ونقلي من مستشفى لآخر وكان قائما على جميع تحاليل العلاج والأدوية في أيامي الاولى من تشخيصي بالمرض ....
شعرت بِبشريّتي لأول مرة ... كانت مداعباته وملاطفاتهم وابتسامته ...تُنبِتُ زهورا في قلبي، فلم يكن التعبير عن شكره موفياً لتلك المشاعر ....
مرت السنوات بسرعة
و في أحد أيامي عملي الشاق جُرحت قدمي ولأني مصابٌ بالسكري فلم أشعر بالجرح العميق الذي سببته آداة حادة لم انتبه لها .... كم تمنيت أن يكون قلبي من فقد الإحساس بالألم بدل جسدي ....
في ذلك اليوم أكملت عملي كاملا حتى انتبهتُ مصادفةً بِبركة الدم الحمراء التي خلّفتها الفجوة الكبيرة في قدمي ...
نُقلت إلى المستشفى ... فتَمّت خياطة الجرح وتعقيمه ولأن مضاعفات السكري زادت عندي .... فَرجِلي كان لها أن تتورم وتنتفخ .... حتى وصلت وتعفنت بالكامل ....
أتذكر ذلك اليوم الأخير بتفاصيله ... كان الجو بارداً كبرودة قلوب الناس يومها .... بعد أن تصارخ الأطباء في المستشفى بأنه ليس لهم الوقت في الاهتمام بشخص متسخِ الملابس عفِن القدم ليس له أحد.... تم التخلص مني ونقلي إلى مستشفى آخر... قسم الطب الداخلي يقول بأن هذا عمل قسم الجراحة فالبتر أصبح لازما وقسم الجراحة يقول ان هذا ليس عمله ويجب تنظيف الجرح.... لم أكن أفهم حينها شيئًا ولم أستوعب كلامًا، ووعيِي لم يكن حاضرا تماما ، وسط نوبات الدوار التي كانت تأتيني، فكنت أُنْقَل بإرادة مسلوبة وبلا حراكٍ بالكرسي المتحرك بين القسمين وكل منهما ينفي أني يمكن ان أكون مريضا عندهم ، لأنهم كانوا منشغلين بمن هم أنظف مني كان منظر قدمي يريعهم .....
الي أن استقرّيت بين القسمين ولم يرضى أحد استقبالي كنت جالسًا على الكرسي أعيش بين الخيال والواقع .... فلحظات أشرد دون وعي ولحظات أستعيد شريط حياتي كاملا ....
لأنه لم يكن لي أحدٌ ولأن الطبيب الذي كان يعتني بي غائب ذلك اليوم، كنت غير مرئي بالنسبة لهم يمرون من حولي دون أن يلتفت أحدهم لي .... ...... ..... ..... ذلك الشعور الذي طالما عشته حتى في أيامي الأخيرة ... استسلمت لرغبتي في النوم ... لعل الألم يزول .....ها أنا أستشعر أنفاسي الاخيرة كانت هادئة ، عميقة ، كل شهيق وزفير يحكي لي قصة استمتعت بها جميعها .... حتى انطفت الأضواء واختفت الاصوات وغبت عن الحياة للأبد ....
المنظر من بعيد مُدمِي جدا .... أُشفقُ على حالتي وأنا أنظر لنفسي مُطأطأ الرأس نائما على كرسي، لا يعرف عنه أحد من حوله......حتى جاء ذلك الطبيب مسرعا لي ... حزنت لحزنه عليّ.... شعورهُ باحتقار الأطباء من حوله وألمه لانعدام الرحمة .. كان واضحا .....
بداخل كل واحد فينا مجرم ... ولأني أؤمن بأن الانسان ليس بشر مطلق ولا بخير مطلق ولكن مزيج بين الاثنين ، ويبقى الراجح في الكفة هو القائد ، ولأن الاجرامَ هو جانبٌ من الصورة الشريرة للإنسان ...يُحبّ الكثير أن يعيش بوجهِ هذه الصورة ... هل كنت ضحية جريمة شنيعة ؟؟؟ ....
لا يهم فلا أحد لي في الحياة كي يستعيد حقي ، بل أنا الآن أشعر بالارتياح لمغادرتي من مكان لم أكن أنتمي إليه أصلا ..
"كما أنّ للقلب صرخة ،فللقلمِ صرخة ألمٍ أيضا"
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
محزن جدا☹
الله يتقبله بواسع رحمته ويرزقه الجنة راحة أبدية
هبة الحرية ..الأمر مؤلم جدا، الدكتور الذي ساعده من قبل هو الذي يدرسني حكى لنا قصته ، بل وأرفقها بصورة في نهاية الدرس كانت قد صورت المشهد الأخير له ،رحمه الله و غفر له ،
🥺☹!