أكتب لغرض واضح وصريح، لكونها لحظات شريفة عار علينا أن نتركها تُهمش، فهي المواقف العصيبة وحدها التي تُشكل إنسانيتنا.. ودونها لا تاريخ لنا يُكتب.
الألم لم يكن مجرد وخزة شاقة فحسب، للألم حضور قوي كفيل بأن يمنح الإنسان المعنى الباحث عنه، وللنعم التي تغمره من جميع الجوانب، ولكن الحياة لها قدرة خارقة في حجبهم عنه لدهور ودهور، حتى يصطدم بجدار المرض، الضعف والعجز.. حينها وفقط يتسنى له أن ينزع نظارته العقيمة ليرى المضمون والتفاصيل خلف السطور..
منذ أيام تلقيت أول جرعة لعلاجي الأخير، أو كما أطمح أن يكون الأخير، بعد أن انتهي بي الحال لإجراء فحص طبي شامل وحتمي انتظرته كثيرًا، وددت أن يكون أول الطريق اختصارًا للوقت والمجهود والأموال التي لم أنعم بها في سبيل التعافي، ولكن الآن وقع الاختيار الأمثل لي، برغم التحذيرات بأن جسدي قد لا يتحمله! وأنني لا بد أن أتهيأ له جيدًا حتى لا أجد ما أخشاه، من مضاعفات وأوجاع وحتى الإغماء جراء هزالي وفقداني للشهية.. وبرغم كل شيء لم أتردد لحظة..
بدأت الاستعدادات بمنتهى الدقة، ممنوع الطعام، فقط المياه والسوائل الشفافة، ومن ثم صيام تام قبل الفحص، تجرعت مرارة مادة تحضيرية قبله بـ 24 ساعة، أذابت قوتي بلمح البصر، لدرجة أنني كدت أتراجع عن هذا القرار ولكن لا مفر من المواجهة، أيقنت أنها مرحلة تحتاج لمزيد من الصبر والتحمل والأمل في نهاية لهذا الاضطراب الذي فتك بي بشراسة طويلًا، عقدت العزم ومع كل شربة رددت بصلابة تأبى الاستسلام: "لا عليكِ، غدًا يهدأ الألم"..
انتهت المدة المحددة للتحضير، ليأتي يوم اللقاء الحاسم بسرعة البرق، أقررت بخط يدي أنني أوافق على كل الشروط وأتحمل كافة مسؤوليات الإجراء، وجلست منتظرة دقائق لتبدأ خطوة لم أعهدها قط، دقائق كانت بقدر السنوات التي أيقظني فيها الألم ليلًا ليُلقنني أقسى الدروس ويُذكرني أن أشكر نعمة الصحة، وما أعظمها نعمة..
شاهدت ملامح الخوف ترتسم على وجوه أسرتي الصغيرة التي رافقتني ذلك اليوم، وحتى خلف أصوات بعضهم عبر الهاتف، ورسائل البعض الآخر التي طال حروفها القلق في ترقب لنتائج الفحص، هل سنعود للمنزل بخيبة أمل أم جبر خاطر؟
ومع كل لحظة تمر أشاهد فيها ملامحهم وأستمع لكلماتهم النازعة لخوفي المستتر خلف ابتسامة النجاة، يزداد إصراري وثباتي على المقاومة، كنت مصدر أمنهم واستقرارهم وإن تراجعت خطواتي كلما اقتربت أكثر! ولكنه الوقت الذي انتظرته بحماس شديد فكيف أتهرب منه بمنتهى الجُبن؟!
والآن.. دقت الساعة السادسة مساءً، وهو الوقت المُتفق عليه لدخول غرفة الفحص، وتجهيز بدني المُتلهف للخلاص، بدايةً من قياس ضغط الدم، إلقاء بعض الأسئلة حول حالتي الصحية لتحديد جرعة المخدر، وأخيرًا وضع سن مؤلم في عروقي المشتعلة بالوجع والخضوع له وإن كنت لا أطيقه!
حاول الجميع تهدئة ذعري الخفي، كما هو المعتاد مع جميع المرضى في مثل حالتي وسني، وإن كنت لا أظهر أي انزعاج بشأن ما سيحدث، ولكنه الروتين، اتخذت مكاني في غرفة الإفاقة "رقم 4" وانغمست بدقات عقارب الساعة في انتظار الطبيب المعالج، ليدب صوته المكان وتنتفض داخلي مشاعر متضاربة، وهي أنني على وشك تحقيق أمنية الشفاء، ومعرفة ما يُقاتلني ويُشاركني صحتي، وفي ذات اللحظة أجهل ما أنا مُقدمة عليه!
هل سأتوجع؟
هل سيخنقني المخدر ولن أعود للحياة مُجددًا كالأفلام الهندية؟
هل سيأخذ الأمر ساعات أم هي مهمة بسيطة تستغرق دقائق معدودة؟
لا أعرف، حقًا لا أعرف! ولكن ما قذف لقلبي الهدوء من هياج نبضه أنني أسير على النهج الصحيح.. بشجاعة وإيمان لا يرهب المجهول..
"20 ثانية ولن تشعري بأي شيء، فقط النوم"..
هكذا كانت كلمات طبيب التخدير بعد مزاح طويل لتخفيف إحساس الرهبة كونها المرة الأولى، كنت قد أجريت جراحة من قبل وقد كانت أكثر تعقيدًا بمراحل ولكن لكل تجربة هيبتها بالتأكيد ويجب احترامها، مضت الثواني، لينتشر غاز لاذع في كل الخلايا، وبالفعل، لم أشعر بأي شيء!
مشهد سينمائي بمقاييس عالمية.. أليس كذلك؟
بعد نومة صامتة استمرت قرابة الساعة، عدت للواقع مع محاليل التغذية، وعلى صوت أمي تطلب غطاء لتدفئة أطرافي من فرط برودة المُكيف في غرفتي التي شهدت ألمي لساعة واحدة فقط بأفكار سنوات مُضنية..
عدت للحياة رويدًا رويدًا، اختل توازني في البداية، ولكني قاومت مرة أخرى، كانت المقاومة هي سلاحي في التجربة بأكملها، تناثرت على مسامعي كلمات من الطبيب لأبي وأمي بنبرة تعجب وحنق: "المعدة مُتهالكة بالكامل!! تحتاج علاج محدد ومتابعة كي تستعيد سلامتها من جديد"..
هُنا وبرغم فزعي على حالي، انتصرت على كل "الروشتات" الطبية التي قذفتني لطرق الضياع بسبب التشخيص غير السليم، حينها أعلنت أنني كنت على صواب في كل مرة صرخت فيها، وأن وجعي لم يكن "دلع ماسخ"!
بعد مرور 10 أيام على هذا الانتصار الرائع، أنا اليوم في طريقي للشفاء، أشعر أن الراحة تتسرب إلى أعماقي مرة أخرى، ببطيء ولكن بنجاح، بعد معاناة قد لا تقارن مع أوجاع الغير المبرحة، ولكن الأنين واحد لا يُستهان به في كل الأحوال، العلة لا تتجزأ، ولو كانت شوكة عالقة في الحلق بعد وجبة بحرية دسمة..
اليوم أشكر الله أنني تطهرت وأتطهر بفضل الألم، وأن ذنوبي يغسلها المرض، لأغدو "نورا" الجديدة، بثوبها الفضفاض المُفعم بالحرية، النقية من الشرور قدر الإمكان، الواعية بقيمة الزمن دون حرمان من أشهى أكلة ومن انطلاقة الشباب، وأن الوجع حتمًا سيتبدد، لا شيء يدوم على حاله، ولكن المعنى في باطن الرحلة، أن تخرج من معاناتك بفكرة تغير سيناريو وجودك، أن تُلهم غيرك بقوة وإن كنت غارقًا في بحور ضعفك، وأن تشعر أنك تشعر وبصدق، وهو ما يتقنه الألم بجدارة..
أعترف أنني ممنوعة تمامًا من التوتر والحزن والكتابة ولو بحرف واحد!! ومن إيقاظ ذهني بمغامرات القلم بعد مفعول الدواء المهدئ لتلتئم جروحي وأغلق الصفحة بسلام، وأرجو أن لا ينكشف أمري أو يسوء الوضع.. ولكني أعترف أيضًا أنني اشتقت للكتابة عن ما يضج بخاطري بعد توقف استمر لأكثر من شهر على ما يبدو! والعودة تحتاج فكرة ثمينة للمناقشة، ولتعويض ما فاتني من شغفي بهذه الحالة، وها هي البداية..
لم أكتب لاستعراض عضلاتي في كفاح وبطولة مزيفة، فمن أنا أمام من يشق الوجع قلبه ليلًا نهارًا؟! أمام من يقطع الصحراء وحيدًا لجرعة شفاء؟! وأمام من لا يملك جنيهًا واحدًا لتكلفة علاجه من الأساس؟!
أكتب لغرض واضح وصريح، لكونها لحظات شريفة عار علينا أن نتركها تُهمش، وأظن أنها خيانة كبرى لها أن تعبر عبورًا عاديًا ولا يتم توثيقها، فهي المواقف العصيبة وحدها التي تُشكل إنسانيتنا.. ودونها لا تاريخ لنا يُكتب..
الحق أنني لم أرتبك كثيرًا في نقل تجربتي البسيطة ذات الهدف العظيم، أن تكون مبادرة من قلب حالة على وشك الانتهاء، أن نحمد الله على نعمه التي لا تعد ولا تُحصى، على نعمة الصحة، نعمة الراحة والهدوء، نعمة الحياة.. فلا تأخذكم الدنيا من شكره وحمده بكل ما تملكوه، وهو درسي المُستفاد.. الحمد لله
عزيزي الألم.. سأشتاق لك..
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات
الحمد لله على كل حال 🌸
أصدق شيء أختم به يومي! 🥺🥺🌸🌸🌸
من القلب: الحمدلله!