يستوقفني هذا الإهداء كلما قرأت هذه الرواية: إلى بابا.
قرأتُ الكثير من الكتب التي أهديّت للٱباء، خطَّ كتّابها في مقدمة أعمالهم الأدبيّة والعلمية إهداءاتهم إلى من رسموا لهم أول الطريق ومهدوا ٱخره، كتبوا: إلى أبي، إلى والدي، إلى فلان ودوّنوا اسم أبيهم صراحةً دون لقب القرابة، ومنهم من اختار المجاز ورسم صورًا منه بأجزل العبارات وأكثر المفردات قوةً، تعجبني هذه الإهداءات لأنّي لو كنت مكانهم لفعلت ما فعلوا ولأهديت كتابي المنشور إلى أبي، لكنّ إهداءً واحدًا ينقلّني بين عوالمٍ كثيرة ويذكّرني بأسمى المشاعر واللحظات التي تجمع الأب بابنته في كلّ مرّةٍ أقرأ الكتاب وأمرّ فيه عن هذا الإهداء: إلى بابا.
إلى بابا، بصفتي ابنته التي كبرت بين ذراعيه، بصفتي الفتاة التي بكت بين يديه وانهارت في لحظاتٍ سوداءٍ كثيرة لا يذكرها غيره، بالكلمة التي لا أناديه بغيرها دون عباراتٍ لغويّةٍ جزلة ودون تراكيبٍ متينة أثبتُ بها قدرتي على التلاعب والمراوغة في اللغة وصياغة المجاز، دون رسمياتٍ، بكلّ حنان الكلمة ورأفتها، بكل ما فيها من توددٍ ومحبةٍ وعطفٍ مبذول.
أهديّت من سيدةٍ كبيرةٍ قيمةً وعمرًا، من أمٍ لفتاتين إحداهما أوشكت على أن تصير شابّةً ترافقها في رحلتها كامرأةٍ، لها عدّة مؤلفاتٍ، أستاذة جامعيّة، تنشر روايتها فتكتب في أُولى صفحاتها: إلى بابا.
أقف عند هذه العلاقة النبيلة في كلّ مرّةٍ أسمع فيها عن أيّ حادثةٍ تشوّهت فيها هذه العلاقة، عن كلّ أبٍ أجرم في حق طفلته، ألا تظلّ الأنثى صغيرة أبيها مهما كبرت؟ ألا يظلّ الأب ينظر إليها بنظرة الفلاح الذي زرع ثمرة صغيرة بين كفيّه فصارت شجرة فظلّ يحنّ إليها ويتأملها على أنّها شتلته الأولى بحجمها ورقتها الأولين؟ كيف يعذّب ويقتل ويؤلم من كانت تشكي له عن جرحٍ صغيرٍ على ركبتها إثر سقوطها أثناء اللعب في الرمال؟ كيف يلمس شعرها لغايةٍ غير تدليلها؟ وكيف يمدّ يديه ليمرر موتها الشنيع عبرهما لا ليعانقها؟ كيف صار هذا أب؟ أيكون هذا كبابا؟ حاشا وكلا، بل لا أصدق أنّه قد عرف الأبوة يومًا.
إلى بابا حياتي هذه كلّها، إلى بابا أيامي السعيدة، مسرّاتي من أصغرها لأكبرها، إلى الذي ما رفع يده أمامي إلا ليمهد طريقي لأحلامي، صانع الحكايات الأول الذي علّمني القصص وسردها لي قبل النوم، الذي علمني الضحك والفرح ومقاومة الألم، إلى بابا الحبيب الأول والبطل الوحيد: شكرًا لأنّك عرفت معنى الأبوة حق المعرفة.
إنّ الأبوة لرزقٌ عظيم، والأبوة لأنثى أعظم وأعظم، فداروهن بالليّن واسقوهن بالحبّ، طهروا نفوسكم وراجعوا مبادئكم، ولا تغضبوا لغير الله، لا تغضبوا وتتعصبوا للعادات البالية وراجعوا الموروثات جيدًا فمنها ما كان علينا أن نرميه من بعد الأجداد كما فعل الرسول -صلى الله عليه وسلّم- مع الجاهلية حينما عرف النبوة، واغضبوا لله بحدود الله لا بحدودكم، فقد اكتمل ديننا الحنيف ولسنا بحاجةٍ لدينٍ وحدودٍ جديدة تشرعها أنت وغيرك وفق هواكم.
ألهمني أضف تعليقك
التعليقات