قصة قد نصادفها في واقع حياتنا المؤلم ، وصراع داخلي وخارجي

أمل في مهب النسيان

أمل شابة في عمر الزهور ، تنتمي لعائلة بسيطة كأي عائلة في المجتمع العربي المعاصر ، يسعى فيها الوالد منذ ساعات الفجر الأولى حاملاً على عاتقه عبء كسب الرزق لسد جوع أفواه لا تشبع ، أنفس في طور النمو ، تظمأ إلى إشباع حاجات جسدية ونفسية . بوصفها الاخت الكبرى كان لزاما عليها أن تضرب بأحلامها عرض الحائط ،مضحية براحتها ورغباتها – كحال المرأة في المجتمعات العربية – صفعتها الدنيا بعنف فألقت عليها بظلال اليتم ، عانت الأمرين ،تقاذفتها أمواج بحر الحياة المتلاطمة ، قلبها ممزق بين قيامها بواجب رعاية أسرتها من جهة، وبين التخطيط لمستقبل يفتح لها ذراعيه واعدا إياها بالخير كله ، تتجاذبها الأفكار تتخبط في عالم من المتناقضات...تستيقظ كل يوم مع نفحات الفجر العذبة ، تبدأ مشوار الكد والتعب ،تجهز اخوتها الصغار للمدرسة ، ثم تبدأ بأعمال المنزل التي لا تنتهي من كنس وترتيب وطبخ... الى آخر ذلك من الأحمال التي تحني الظهر ،كثيرا ما كانت تفترسها مشاعر الغربة والوحشة عندما تجلس وحدها متأملة في واقعها المؤلم المرير الذي تتجرعه علقما، فلا رفيق يُؤنس ولا جليس يُعين.وذات يوم من أيام الشتاء ،تأتي الجارة سعاد لزيارة أمل.سعاد : السلام عليكم..أمل: وعليكم السلام ورحمة اللهسعاد : كيف حالك ، اشتقت إليك ، لقد مر زمن طويل لم ألمح فيه طرف ثوبك في الزقاق .أمل: الحمد لله على كل حال.. سامحيني على التقصير ،اليوم قصير أقضيه في أعمال المنزل والعناية بإخوتي ، وفي نهايته ألقي جسدي المكدود على السرير فأغط في نوم عميق ، لأعاود مشوار الشقاء في يوم جديد .سعاد : الله المستعان ، أدرك تماما مدى صعوبة تلك الحياة التي تحيينها عزيزتي ، هي أعباء تكسر الظهر وتعجز عن النهوض بها أقوى الأجساد. عليك بالصبر ،لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.بعد أسبوع عادت الجارة من جديد حاملة معها بشارة سارّة أو هكذا ظنّت ، فتحت لها أمل الباب، وقد بدت على ملامحها أمارات الإرهاق والمرض ، وبرزت الهالات السوداء تحت عينيها ، وشحب لون بشرتها التي أصبحت بالية كثوب خرق...بادرتها الجارة بابتسامة قائلة : أريد البشارة البشارة ، أحمل لك خبراً يساوي مليون دينار . تنظر إليها أمل نظرة دهشة واستغراب ، وفرحة ظهرت على استحياء : ماذا ماذا؟! تحدثي أخبريني.سعاد : لدي عريس ...أمل : عريس ؟!سعاد : نعم عريس ( لقطة) أمل : كيف ذلك ، وعمري لم يتجاوز الخامسة عشرة ، وأنت أدرى بحالي وأعلم بكل تفاصيل حياتيسعاد : لانني أعرف كل ذلك ،وجدت في هذا العريس نافذة فرج ،وحبل أمان لاخراجك من حفرة الهم والفقر تلك ،فكري في الموضوع مليا ،فهو رجل محترم ،موظف حكومي ،يملك شقة وسيارة ،وقادر على تحقيق الأحلام التي لم تحلمي بها بعد ، هو في خريف العمر ، ليس له أولاد ، زوجته متوفاة ، أنت ستكونين الوريثة الوحيدة لكل المال والعقارات ...خرجت سعاد وقد تركت أمل في دوامة من الفكر لا تنتهي..صراع داخلي يمزقها أشلاء ، اضطراب وقلق ، أن أكون أو لا أكون ، تضارب بين القيم الإنسانية والأهواء البشرية، بين الانا والآخر ….لم يزرها النوم تلك الليلة ، لازم السهاد قلبها ، أخذت تفكر بصوت خفي كي لا يسمعها أحد " هي غير مدركة لماهية الزواج ، لا تعرف ماذا تفعل وكيف تتصرف ،ليس هناك من يرشدها ويبوح لها بأسرار الحياة الزوجية المستقرة ، ماذا سيحل بإخوتها دونها ،كيف سيخوضون الصعاب ويتجاوزون التحديات دونها ،وهي الام والشقيقة ،من ربت واهتمت ورعت وشاهدتهم يكبرون أمام عيونها ، عايشت لحظات حزنهم وهمهم ،فرحت لفرحهم ، انها معضلة أخلاقية بشرية.ومن زاوية أخرى هي إنسانة لها الحق في العيش بأمان بعيدة عن الفقر والحرمان ، أضاعت الكثير من عمرها في التعب ،أما آن الأوان الآن للراحة والهناء ، كأي فتاه ترغب في الحصول على الكثير ، الملابس والحلي حتى الطعام الذي حرمت منه مرارا لتسد جوع إخوتها ،ألا يحق لها أن تكون أميرة ،تتبختر في قصرها بزهو ،تأمر فتطاع ،فهي تملك الجمال والشباب ، تغمرها رغبة جامحة في أن تطوي صفحات كتاب الذكريات المهشمة ،وأن تخط سطورا جديدة من الجمال والمحبة والعيش الرغيد.وأخير بعد صولات وجولات ،وكر وفر ،انتصر صوت العقل ، ووافقت على الزواج من الحاج علي.كأي بدايات كانت الأيام مشرقة ،تفوح منها رائحة المسك والعنبر ،مشبعة بعطور نيسان ، عاشت كفراشة تنتقل من وردة الى أخرى برشاقة وجمال ، قطفت من كل قطر أغنية ، عاشت كما لم تعش من قبل ، لم يبخل عليها الحاج علي بشيء ،فكل طلباتها كانت تصلها في التو واللحظة ،قبل أن تنبس ببنت شفة ،لم تقصر في واجبه أبدا ،بذلت قصارى جهدها كي تسعده ،ففي عمق قلبها حملت امتنانا عميقا لمن انتشلها من بؤرة اليأس التي غمرتها من رأسها حتى أخمص قدميها. مرت الشهور والسنوات وهما ينعمان بالاستقرار والسعادة ، في مرفأ بعيدا عن كل المنغصات والشوائب ، الى أن وقع حدث زلزل ذلك الكيان الهادئ ،وصدع جدرانه ، قلبه رأسا على عقب ، هزت وحركت في قلبها مشاعر ظنت أنها نسيت ومحيت من قاموس حياتها المعاصر ، كان للشاب أمير دور بارز في هذه الثورة ،وذلك الإنقلاب ، فهو ابن أخ الحاج علي ،وقد رباه كابن له ، فغدا وسيما قويا ، استقى الرجولة والشهامة والسخاء ،من أبيه الروحي ، كان مديرا لمشروع سكني متواضع أنشأه عمه الحاج ، ليساهم في صقل شخصية الشاب وتأمين مستقبله.كلما كان أمير يزورهم ،أو تلتقيه في مناسبة ،تشعر بأن قلبها يثب من مكانه ويخفق بعنف،أحاسيس دفينة أخرى غير مفهومة تشتعل داخل صدرها ، لم تشعر بها من قبل ،ولا تعرف كيف تصفها أو تعبر عنها ، أخذت تلك المشاعر تتفاقم وتتضخم مع كل مشاهدة ولقاء بأمير ، بدأت تختلق الاعذار كي تراه ، فتارة تريد أن يأخذها الى التسوق ،وتارة أخرى الى النادي ،أو لمراجعة بعض الدوائر الحكومية ، أو لزيارة الطبيب ،وهكذا لم تستطع أمل منع نفسها من رؤية أمير يوميا ، وإذا ما تأخر أو تغيب يوما هاتفته محفزة إياه على المجيء ورؤية عمه الكهل.عمه الذي زاد وضعه الصحي سوءا مع تقدم السن ،فلم يعد كالسابق ،أصبحت همته ضعيفة، وحركته قليلة ،لا يفارق سريره إلا ما ندر ، تزوره الحمى ليلا فتزيد من آلامه وأسقامه ،فتسمع صوت أنينه يفطر القلوب ، هزل جسده ، وضمرت أعضاؤه،حتى غدا كشبح لا معالم له ،ومع هطول المصائب غزيرة على رأسه ،عاودها شعور الوحشة والوحدة والغربة ، الذي ظنت أنه تلاشى دون رجعة ،لكن هيهات.... فكل ما حولها أشباه بشر ،وأنصاف أشياء ، لا تريد أن تغرق في بحر من الظلمات ،تسعى باستماتة كي يشرئب رأسها من رحم المحنة ،ليرى نور البقاء كي تنهض على قدميها بثبات وإصرار ،فنزعتها للحياة قوة تدفعها للبدء من جديد..فبالارادة تحيا ودونها تفقد الحياة.تموز 2018


ألهمني ألهمني أضف تعليقك

التعليقات

إقرأ المزيد من تدوينات نريمان نزار

تدوينات ذات صلة